سامحيني يامَّا، أشرف
ترجمة: محمد نجيب سالم
محطة تورينو بورتا نووفا. القطار الإقليمي المتجه إلى بولونيا في الساعة 6.20 م يتحرك الآن من الرصيف رقم 10. وراء نافذة القطار، يضع محمود سماعات الآي فون على أذنيه ويضغط "بلاي". سامحيني يامَّا لأشرف. ربما أخطأ في اختيار الأغنية. أو ربما هي الأغنية المناسبة لهذه اللحظة. سامحيني يامَّا. سامحيني إذا كنت غادرت، اغفري لي نفيي لنفسي، اغفري لي غيابي. في وداعه، يقف شابٌّ على رصيف القطار وعيناه قد احمرت من شدة البكاء. إنه صديقه المقرب. يتنهد. نشئوا سوياًّ في شوارع صفاقس، في تونس. لسنواتٍ عملوا معاً على قوارب قرقنة، وسوياًّ عبروا إلى لامبيدوزا. كان الرابع والعشرين من كانون الثاني/يناير. مرت ستة أشهر منذ ذلك الحين. والآن حانت أصعب لحظات الرحلة. لحظة الوداع. سيذهب محمود إلى بارما، بينما سيذهب حسن إلى باريس. سيلحقا بأقربائهما. في جيب كلٍّ منهما تذكرة ذهاب فقط. حصلا للتو على هاتين التذكرتين من مركز تحديد الهوية والترحيل بتورينو مع صديقٍ آخر ضمن فوج صفاقس يدعى أمير، الذي عبر معهما إلى لامبيدوزا على متن نفس الفلوكة (القارب) بصحبة ستة ركاب آخرين. بالنسبة لهم، الرحلة تبدأ من هنا. بعد ستة أشهر من الاحتجاز. بنفس العزيمة لتحقيق النجاح، ولكنهم يحملون في قلوبهم مرارةً أكبر؛ فأوروبا التي طالما حلموا بها لم يعد لها وجود في مخيلتهم
بالنسبة لمحمود، تبدت صورة أوروبا شيئاً فشيئاً مع زيادة جرعات الأدوية النفسية التي كان يتناولها داخل مركز تورينو لتحديد الهوية والترحيل. ثلاثون قطرة من عقار ريفوتريل في الصباح، ثلاثون أخرى وقت العصر، وثلاثون أخرى وقت المساء؛ كل هذا لإيقاف العقل، والنوم أطول فترة ممكنة. لم يستعد بعد بريق عينيه الذي يتمتع به شابٌّ في سنه (26 سنة). لكن حالته تتحسن عما كانت عليه بالأمس، عندما وضع – بمجرد خروجه من مركز تحديد الهوية والترحيل - السجائر في فمه، وكان متوتراً، ثم نسي أن يشعلها
أما بالنسبة لحسن، فصورة أوروبا التي كان يحلم بها قد استحالت بقعةً ذات لونٍ أرجوانيٍّ قاتمٍ، إنها الكدمات التي خلفتها ضربات رجال الشرطة بهراواتهم على ظهره. كان ذلك في بداية شباط/فبراير. اهتدى الثلاثة – حسن ومحمود وأمير - لنفس الفكرة. كان لهم باعٌ كبيرٌ في كيفية ربط العقد وفكها، فلقد عملوا – لسنواتٍ – كبحارة في تونس. بعد قيامهم بربط ملائات الفراش، أصبح لديهم حبلاً يبلغ طوله تسعة أمتار، ويحتوي على عقدة كل نصف متر كي يتمكنوا من التسلق بشكلٍ جيدٍ. بعد ذلك، كل شيء تم بسرعة. قاموا بإلقاء الحبل خلف القفص الحديدي الذي يبلغ طوله خمسة أمتار. ظل محمود وأمير يمسكان بالحبل من الأسفل، ثم شرع حسن - الأخف وزناً – في تسلق الحبل. وبعد أن قفز إلى أسفل، هرع نحو المخرج المؤدي إلى شارع برونِلِّيسكي بكل ما لديه من قوةٍ في ساقيه. ولكنه لم يكن سريعاً بدرجةٍ كبيرةٍ
على بعد أمتارٍ قليلةٍ من المخرج، أوقفه رجال الحراسة الذين كانوا متواجدين في أكشاكهم. لم يمسوا شعرةً منه أمام باقي المحتجزين الذين كانوا يشاهدون الموقف خلف القضبان. قاموا فقط بالقبض عليه واقتياده بطريقةٍ هادئةٍ إلى مكاتب الصليب الأحمر. وهناك تعرض للضرب. قام بذلك رجال الشرطة. قام اثنان بإمساكه من ذراعيه. ثم سدد ثالثٌ من الخلف ركلتين إلي عقبيه أفقدته توازنه وأردته أرضاً، عندئذٍ انهالوا عليه ضرباً بالعصي. إنها عقوبة الضرب المعتادة. هذا ديدنهم داخل مركز تورينو لتحديد الهوية والترحيل. يعرف أمير – الشاب الثالث في مجموعة صفاقس – شيئاً عن ذلك. فلقد لاقى نصيبه من التعذيب الذي ترك على ذراعه الأيسر علامةً لن يمحيها الزمن
تمتد من العضلة ذات الرأسين إلى المعصم. تتوازى الواحدة تلو الأخرى، دقيقة ولاتزال تحتفظ بلونها الأحمر. إنها القشرة التي كونتها الجروح. تلك الجروح التي أحدثها أمير في جسده - مستخدماً قطعة من زجاج إحدى النوافذ – كي يجعلهم يتوقفون عن ضربه. ذلك اليوم، قبض عليه ستة أشخاص. لا يعرف إذا كانوا ضباطً أم جنوداً. كل ما يستطيع تأكيده هو أنهم استمروا في ضربه بلا هوادة، وأن الفكرة الوحيدة التي جالت بخاطره لإيقافهم هي أن يقطع شرايينه ويغرق في دمه
بدأ كل شيء في الصباح حينما كان مسجوناً في المنطقة الصفراء. دار بينه وبين أحد المشرفين بالمركز نقاشاً سيئاً. أخبره بأن الغذاء غير صالح للأكل. وعندما أجابه الشرطي بأنه إذا لم يكن الطعام قد أعجبه فبإمكانه إلقاءه، أخذ المشرف عينة من الطعام - في إشارةٍ تنم عن التحدي - أمام القفص الحديدي الذي كان يفصل بينهما. كان الضرب هو الدرس الذي قرروا أن يلقنوه إياه كي يتمكنوا من ترويضه، تماماً كما يفعل بعض الناس مع الكلاب عندما لا تكن مطيعة. وحتى يتأكدوا من أنه قد استوعب الدرس لأول ولآخر مرة، قاموا – بعد أن أوسعوه ضرباً – بإيداعه في الحبس الإنفرادي
شهران وهو محتجزٌ داخل غرفة. وحيداً. طوال اليوم، فيما عدا ساعة الهواء التي يقضونها في ملعب كرة القدم الصغير كي يحركوا أرجلهم. حلم أوروبا الذي طالما راوض أمير انتهي به هناك بالداخل. في إحدى أيام الربيع، قام أمير بتعليق نفسه داخل حبل مشنقة. فعل ذلك عندما قرر أن ما يحدث له قد تخطى ما يمكن أن يحتمله بشرٌ، وأنه لا جدوى من أن يعيش مهاناً ومعاملاً كالحيوانات. إذا كان الموت رفض – لسخرية القدر – أن يحمله بعيداً، فهذا بفضل أحد رجال الجيش. استطاع بالكاد أحد رجال الجيش المسئولين عن الحراسة أن يرى المشهد، فأسرع إلى موقع الحادث يحمل في يده سكيناً صغيراً كي يقطع الحبل الذي شنق أميرٌ به نفسَه. ووصل في الوقت المناسب. ثم حمله إلى الممرضة دون أن تؤثر محاولة الانتحار على حالته الصحية. ثم نأتي إلى واقعة الحريق
في تلك الفترة، كان التونسيون المحتجزون داخل مركز تحديد الهوية والترحيل لا يتحدثون عن شيءٍ آخر. كيفية الهروب والعودة إلى الحرية، كي يتمكنوا أخيراً من مواصلة الرحلة إلى فرنسا كما فعل أول مَن وصلوا إلى لامبيدوزا حين تركوهم يهربون من مراكز اسقبال باري وكروتونيه ومن مخيماتهم كما حدث في ماندوريا. أدرك الجميع أن الهروب بات ضرباً من ضروب المستحيل، وأن الأدوية النفسية التي كانوا يتناولونها لم تفعل شيئاً سوى تدمير صحتهم، كما أن الإقدام على الانتحار أصبح جنوناً. أمام هذه الظروف، فكر البعض في أنه لم يبق لهم سوى النار. إذا تمكنوا من جعل المركز غير صالح للاستخدام، فسيتوجب عليهم نقلهم إلى مكانٍ آخر، وربما يتم الإفراج عنهم
شارك في الإنتفاضة من المنطقة الصفراء أربعة عنابر من خمسة. حدث ذلك في 18 شباط/فبراير. أشعل المحتجزون النار في الفُرُش والأغطية. دمرت ألسنة اللهب القسم، وبعد تدخل رجال الإطفاء تم إغلاقه؛ لإصلاح ما لحقه من أضرار. إلا أنهم لم يُخرِجوا أحداً من مركز تحديد الهوية والترحيل. بل على العكس من ذلك، تم الزج بتونسيين في السجن بتهمة إشعال حريق وإتلاف جزء كبير من المركز. كما قضت المحكمة بحرمان الباقين من الحصول على تصريح إقامة لأسبابٍ إنسانيةٍ لمدة ستة أشهر بعد أن كانت الحكومة الإيطالية قد قررت منحه لكل التونسيين الذين وصلوا إيطاليا قبل 5 نيسان/أبريل
هكذا ظل أصدقاء صفاقس الثلاثة ينتظرون انتهاء مدة الاحتجاز (ستة أشهر) قبل العودة إلى الحرية. خرجوا عصر يوم الأربعاء الماضي. وبعد يومٍ واحدٍ، ها هم يرحلون. محمود وحسن رحلا أولاً. أما أمير فانتظر ليومين آخرين. وهو الوقت اللازم للتخلص من السموم التي خلفتها الأدوية النفسية داخل جسمه، ولكي يتوائم من جديد مع مشاهدة الأفق في السماء، وسماع ضوضاء السيارات، ورؤية ألوان المحلات، وسماع ضحك المارة وأصوات الأطفال، وتمييز رائحة الطعام الشهي
بدا شاباًّ عادياًّ في طريقه للبحر، لكنه كان مضطرباً وسط حشود الركاب في محطة تورينو بورتا نووفا. كان يرتدي سروالاً قصيراً، وتي شيرت، ويحمل على ظهره شنطةً صغيرةً، وقد طرأ عليه بعض التغييرات. الفرق هو أنه لديه في جيبه تذكرة ذهاب. منحوه سبعة أيام كي يغادر إيطاليا. تبقى له منها أربعة. بعد ذلك سيصبح وضعه مرةً أخرى غير قانوني. ويمكن في أي لحظة أن تلقي الشرطة القبض عليه وتزج به من جديد في إحدى مراكز تحديد الهوية والترحيل ليقضي بها 18 شهراً أخرى
إنه يعرف المخاطر. يعلم أن الحياة ستكون صعبة. ولكنه بحارٌ ماهرٌ اعتاد على الإبحار وسط الأمواج. ثم أن المخاطر هي جزء من المغامرة. الشيء المهم ألا يفقد وجهته. الآن، أخذ القطار المتجه إلى تشيفيتانوفا. في ماركيه ينتظره مواطنٌ تونسيٌّ يعرفه. لن يتمكن من العودة إلى تونس لسنواتٍ طويلةٍ، حتى يتمكن من الحصول على تصريح إقامة. إنه العيش في الخفاء. سامحيني يامَّا. مَن يدري: هل ستفهم والدة أمير؟