بعد نشوة الثورة، دفعت المغامرة في عرض البحر والسعي لتحقيق السعادة في أوروبا المئات من الشباب التونسي لطريق العودة. يتوجهون إلى القنصلية في مدينة جنوة وباليرمو، اللتان تقدمان يد العون لمن لا يملك المال لشراء تذكرة السفينة المتجهة إلى تونس. ويعودون إلى وطنهم. دعتهم قناة الجزيرة الإنجليزية لرواية قصصهم في هذا التقرير الذي ننقله لكم. تشكك قصصهم في اعتقادات من يؤمن بنظرية المؤامرة. ولكن إذا توقفنا لحظة للتفكير في الأمر، سنجد أن هذا كان شيئاً متوقعاً. فمن تونس سافر العديد بدافع الحماس الجماعي. ولا أتكلم عن السجناء الفارين من السجون في تونس أثناء الثورة، الذين ليس لديهم رغبة في العودة كي لا يكملون العقوبة المتبقية، ولا أتحدث عن من سافروا إلى فرنسا للحاق بأقاربهم وأصدقائهم للبقاء عندهم حتي يجدون عملاً أو يتعلمون اللغة. ولا عن من هم في إيطاليا للمرة الثانية، الذين عاشوا فيها زمناً وطردوا في الفترة الأخيرة. إنما أتحدث عن من سافر بدافع الحماس وحب المغامرة، وليس لسبب أخر، فبالنسبة لهم المهم أن من لم يستطع تحقيق أحلامه، فعليه أن يعود. يقولون للجزيرة: "لقد تخيلنا أوروبا بشكل مختلف، مما يعني أن نعود". ويفعلون ذلك طوعا. وهذا هو بيت القصيد: حرية الإنتقال، ولكن في الإتجاهين، حرية الذهاب وحرية العودة
على عكس ما يقرب من ألف تونسي الذين طردوا قسرا من إيطاليا منذ بداية العام – أخرهم 28 اليوم في لامبيدوزا – هناك مئات الشباب يختارون العودة إلى تونس في مبادرة من جانبهم، ويقال أن أفضل طريقة لمواجهة ما يسمى بموجات الهجرة هوعدم مواجهتها، بل أن تترك الناس أحراراً في الذهاب والعودة، مثلما يحدث بهدوء في السنوات الأربع الماضية في دول مثل رومانيا وبلغاريا، وبولندا، نصفهم من الأجانب الذين يعيشون في إيطاليا. وبالرغم من هذا علينا أن نشكر وزارة الداخلية على إتاحة الفرصة لنا لإثبات ذلك علميا
إذا لم يكن في الواقع وزير الداخلية قد وافق على إصدار أكثر من 14000 تصاريح إقامة لحالات إنسانية لمدة ستة أشهر للتونسيين الذين وصلوا إلى إيطاليا قبل 5 أبريل، لما عاد إلى تونس أحد، ولظل في أوروبا 14000 شخص مضطرين إلى الاختباء، وإلى العمل بصورة غير قانونية والعيش على هامش المجتمع، واقعين في حصار داخل حدودنا، غير قادرين حتى على العودة إلى ديارهم لأنهم لا يملكون مستندات هوية. فبفضل تلك المستند هناك ستة أشهر أمام هذه الشباب للتجول في جميع أنحاء أوروبا، ومن ثم يقررون مدى إمكانيتهم الحقيقية في البقاء هنا أو العودة. ولكن العودة مرفوعي الرأس، كمن قرر أن أوروبا لا تستحق كل هذا العناء، وليس العودة بعد الذل والغضب الذي يلقاه من يعود بعد شهور قضاها في احتجاز وإذلال
كم من اعتداء يرتكب باسم القانون، لمراقبة والسيطرة على مئات وآلاف الشباب وراء القضبان في مراكز تحديد الهوية والطرد؟ وكم هي أنواع الاعتداءات.... الاعتداء الأبيض بالعقاقير التي يطلبها المحتجزين كل صباح كي ينسون الألم والإذلال، والاعتداء المؤسسي الذي يلقاه من تحتجزه السلطات الايطالية في مراكز احتجاز مؤقتة لعدة اسابيع بدون حكم قضائي، والاعتداء الجسدي الذي يتمثل في ضرب رجال الشرطة لكل من يحاول الهرب أو الاحتجاج، والاعتداء الجسدي على المحتجزين الذين دائما ما يستغيثون غضباً، أو يشتبكون مع ضباط قوات الأمن والعاملين المدنيين لأنهم لا يحتملون كونهم سجناء كالحيوانات. كيف لنا ألا نفهمهم؟ من يمكنه أن يكون في مكانهم ولا يفعل الشئ نفسه إذا وجد 18 شهر يضيع هدراً من حياته في قفص
ولن نعجب إذا جاء اليوم الذي ندفع فيه ثمن هذا، لأن لكل شئ ثمن. ولا أشير هنا إلى تلال الأموال التي تغذي قطاع الهيئات المعاونة الخاص، التي تتكسب من وراء مراكز الطرد: بداية من مؤسسة (كونتجتنج بيبول) حتى (ميزيريكورديا)، والصليب الأحمر الإيطالي، وحتى "القربان المقدس للقديس تريفوني". إنما أتحدث عن عودة صورة أوروبا الغير مضيافة والعنصرية بشكل متزايد
من بين المحتجزين التونسيين في مركز للطرد الواقع في تورينو هناك بالفعل من يقسم بالانتقام من الايطاليين الموجودين في تونس. يقولون أنهم لا يريدون أن يروا السياح الإيطاليين في بلدهم. "سترى أول شخص أقابله ماذا سأفعل به". ليس هذة مجرد كلمات للترويح عن النفس. بل أن هناك المزيد. فمن يزرع الكراهية يحصد الاحتقار. هذا هو أيضا ثمن القمع: عبء الكراهية والاستياء الذي ملأ نفس من جاء حاملاً حقيبة مليئة بالأحلام وربما بالسذاجة، عندما يرحل بالألم والذل والاعتداء النفسي والجسدي لم يجده أبداً في بلده حتى في عصر الدكتاتورية. لدرجة أن الكثيرين يفضلون حقا العودة إلى ديارهم بدلا من العيش في أوروبا التي تهددهم بالسجن أحياءاً داخل حصونها