كم هو بعيدٌ صيف عام 1996. وتلك الإجازة تنقلاً بين أرجاء البحر المتوسط. كان رمزي يبلغ من العمر 20 عاماً. رحلوا من مدينة تونس وكان عددهم سبعة. طلاب جامعيون، في المرحلة المتوسطة، ليس لديهم أدنى نية في خرق الحدود والخوض في مشاكل مع الجمارك. خوض مغامرات مع بعض الفتيات على متن السفينة كانت فكرةً أكثر من مغرية. ولكن ذلك المساء في برشلونة – وبعد أن بالغوا في شرب البيرا وأصبحوا ثملين – قرروا عدم العودة إلى السفينة. كانت أوروبا هناك، أوروبا برمتها بين يديهم، جاهزةً كي يداعبوها ويفوزوا بها. وعندما استيقظوا – ورأسهم كان ثملاً لما تناولوه في اليوم السابق – كانت السفينة قد رحلت. ذكريات ذلك التصرف الصبياني – الذي غير مجرى حياته – ترجع إلى 15 سنة. هذه المرة، لا يوجد لدى رمزي أي زجاجة بيرا كي يشرب اندفاعاً وراء جنون الشباب. ذلك لأن مركز روما لتحديد الهوية والترحيل يحظر تناول الكحول. ها قد مرت تسعة أشهر على آخر زجاجة بيرا تناولها، وعلى آخر نزهة قام بها على سواحل سان ريمو. تسعة أشهر خلف قضبان مراكز تحديد الهوية والترحيل. بدايةً في تورينو، ثم في روما، لأنه صحيح أن الحد الأقصى لمدة الاحتجاز في مراكز تحديد الهوية والترحيل هي 6 أشهر. ولكن إذا قاموا بترحيلك إلى بلدٍ خاطيءٍ، فإن هذا يكون أسوأ مما قد يحدث لك في لعبة بنك الحظ. تذهب إلى السجن، تأخذ قطاراً، ثم تعود لتنطلق من نقطة البداية
هذه قصة رمزي. شاب تونسي يبلغ من العمر 35 سنة تم ترحيله خطأً إلى المغرب بعد احتجازه لمدة خمسة شهور في مركز تورينو لتحديد الهوية والترحيل، ثم إعادته إلى إيطاليا مرةً أخرى - بعد سجنه في الدار البيضاء لمدة 15 يوماً - كي يتم احتجازه من جديد داخل إحدى مراكز تحديد الهوية والترحيل، وهو مركز روما. ومن هنا بدأ العد من جديد. فالآن – وبعد صدور قانون الترحيلات الجديد – قد يفقد رمزي 18 شهراً أخرى من حريته. وقد أمضى في مراكز تحديد الهوية والترحيل 14 شهراً خلال السنتين الأخيرتين فقط
ولكن دعونا نسرد القصة من أولها. فأول الحكاية ليس رحلة برشلونة عام 1996، ولكن أول تحقق من الوثائق في إيطاليا. نحن في عام 1998، ويخشى رمزي من ترحيله إلى تونس، لذلك يفصح عن اسمٍ خاطيءٍ له، اسم عراقي: رامي علي. تنجح الخدعة، لأنه بعد شهر يتم إطلاق سراحه من قبل مركز الاحتجاز في لاميتسيا تيرميه
منذ ذلك الحين، يحمل رمزي هذه الجنسية المزدوجة. أيضاً في عام 2001، عندما يُزَج به في السجن بسبب تجارة المخدرات. يقضي في السجن عاماً. وبعد خروجه من السجن بقليل، يتم القبض عليه لعدم حمله مستندات، ثم يتم نقله إلى مركز تورينو لتحديد الهوية والترحيل. نحن في عام 2003. يصر من جديد على الاسم العراقي، وهو على يقين من أنه سوف يجنبه خطر ترحيله إلى وطنه
لكن في صباح يومٍ ما، وقت الفجر، أتوا لإحضاره من فراشه. مر 22 يوماً منذ دخوله مركز تحديد الهوية والترحيل. قام القنصل بتحديد هويته على أنه مواطنٌ مغربيٌّ. ربما أنه اعتقد أنه ضمن الكثيرين الذين ادعوا كونهم عراقيين وحاولوا تغيير نبرة صوتهم. لا يوجد وقت للاعتراض، فقبل أن يدرك ما يحدث له، يجد نفسه في ميناء جينوفا، على متن السفينة المتجهة إلى طنجة
وفي المغرب يتم إيداعه في السجن. نفس الجريمة التي اتهمته بها إيطاليا: الدخول إلى الأراضي الوطنية بشكلٍ غير شرعي. العقوبة هي الحبس لمدة شهرين. الحجيم. وبمجرد خروجه من السجن، لم يعد لديه سوى التوجه إلى السفارة التونسية بالرباط وطلب المستندات اللازمة للعودة إلى تونس على متن الطائرة
تمضي ثلاث سنوات، والرغبة في العودة تسيطر عليه. هناك سفينة ستحمله إلى الساحل الشمالي للبحر المتوسط. هذه المرة ليست سفينة سياحية، ولكنها سفينة تجارية. أحد الزملاء التونسيون بمارسيليا. يكفي أن تدفع للشخص المناسب للاختباء في مخازن السفينة. تبدأ الحياة من جديد في فرنسا. نحن في صيف عام 2006. وفي نيتشي، يجد كهربائي تونسي يوفر له عملاً يومياًّ. لكنه شخص أساسي هنا على الحدود في سان ريمو، حيث تعيش أسرة أخيه. وخلال ذلك يستمر في محاولة تعويض ضآلة مرتبه ببيعه الدخان
لكن الشرطة وضعت عينيها عليه وبدأت تراقبه. وبعد مرور شهورٍ قليلة، تلقي القبض عليه. الحكم هذه المرة قاسٍ: ثلاث سنوات. وبعد قضاء مدة الحكم، نقلوه من سجن سان فيتوريه بميلانو إلى مركز جراديسكا لتحديد الهوية والترحيل بفريولي. نحن في 10 حزيران/يونيو 2009
ينتظر رامي على مرور مدة الاحتجاز (60 يوماً). وعندما يكون لديه حقائبه جاهزةً للعودة إلى سان ريمو، يوافق البرلمان على تفعيل الحزمة الأمنية. نحن في 9 آب/أغسطس 2009. الحد الأقصى لمدة الاحتجاز داخل مراكز تحديد الهوية والترحيل يقفز من 60 يوماً إلى 6 أشهر. يتم تطبيق القانون بأثر رجعي. ينبغي على رمزي قضاء أربعة شهور أخرى. الإنتفاضات التي تلاحقت في جراديسكا وفي مراكز إيطالية أخرى لتحديد الهوية والترحيل لم تُحْدِثْ أي تغيير
خرج من مركز جراديسكا في كانون الأول/ديسمبر. أصبح محطماً. يعود إلى سان ريمو عند أخيه. طلب منه المحامي ألا يفتعل مشاكل حتى العفو القادم. لم يعد يخرج أنفه خارج المدينة. ولكنهم عادوا من جديد للبحث عنه. نحن في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام التالي، 2010. ذاك الصباح، ذهب إلى البار، يتناول القهوة مع أحد أصدقائه. يتعرف عليه الشرطي. يعرف سوابقه الجنائية، وذلك الصباح كان وجهه ينم عن أنه يريد تطهير بلده من تلك النماذج السيئة. طلب منه أن يتبعه. قضى ليلةً في قسم الشرطة، وفي اليوم التالي تم ترحيله إلى مركز تورينو لتحديد الهوية والترحيل
نفس مركز تحديد الهوية والترحيل الذي تم ترحيله منه – بالخطأ – عام 2003. . أشباح السجون المغربية تعود لتطل برأسها من جديد. هذه المرة، يشعر رمزي بالخوف. ينتظر بفارغ الصبر جلسة المحاكمة كي يكرر للقاضي – بإصرارٍ – اسمه الحقيقي، وأن اسمه ليس رامي على، وأنه ليس عراقياًّ. يقول أنه في مرة من المرات قاموا بترحيله من تورينو إلى المغرب، ولكنها ليست وطنه، فوطنه الحقيقي هو تونس. يحاول القاضي تهدئته، لكن وجهه لا ينم عن أنه يأخذ كلامه على محمل الجد
وعندما أتوا – بعد مرور خمسة أشهر – كي يحملوه إلى الزنزانة، فَهِمَ على الفور أن هناك شيئاً ما خطأ. كان ذلك في وقت الفجر، عندما قاموا في البداية بربط يديه خلف ظهره بالشريط اللاصق. ثم ألقوا به في غرفةٍ مع ثلاثة آخرين، رجل عجوز وشابين، كلهم مغربيين. أحدهم مغطى - من قمة رأسه إلى أخمص قدميه - بالأشرطة اللاصقة، الملفوفة حوله وكأنه خنزير، لأنه أبدى الكثير من المقاومة؛ كما أن هناك أيضاً شريطاً لاصقاً على فمه كي لا يصرخ في الطائرة. تنطلق الطائرة، متجهةً إلى الدار البيضاء
للمرة الثانية – بمجرد هبوط الطائرة للمغرب - ألقي القبض على رمزي بتهمة الهجرة غير الشرعية. هذه المرة الجحيم يستمر لمدة 15 يوماً. قررت السلطات المغربية إعادة الطرد إلى راسله، قاموا فقط بدفع تذكرة الطيران. بمجرد هبوط الطائرة إلى مطار فيوميتشينو، تبدأ اللعبة من الصفر. من جديد مركز لتحديد الهوية والترحيل. هذه المرة في مركز يونتيه جاليريا. ولابد أن يقضي به مدة تتراوح من 6 إلى 18 شهراً، وفقاً لما سيصوت به مجلس الشيوخ. بطل الترحال – حراقة - الذي أصابته الانتكاسة. كم هو بعيدٌ صيف عام 1996
ترجمة: محمد نجيب سالم