بعد الانتفاضة، تأتي عمليات الطرد. في أعقاب أعمال الشغب التي شهدها مركز روما لتحديد الهوية والترحيل في ليلة نهاية الجمعة وبداية السبت، بدأ تفعيل عمليات الترحيل الإجبارية بأعلى معدلاتها. وكان أول من تم ترحيلهم 17 مصرياًّ. صباح يوم السبت، تم وضعهم في حبسٍ انفراديٍّ في القسم المخصص للإناث. وفي عصر يوم الأحد، تم وضعهم على متن الطائرة المتجهة إلى القاهرة. سيشعر الجميع بغيابهم. سيفتقدهم أقاربهم (جميعهم لديهم بعض الأقارب في روما، وأحدهم ينتظر طفلاً من صديقته الرومانية التي كان يعيش معها). سيفتقدهم أيضاً أصحاب العمل الذين كانوا يعملون لديهم. نعم، لأنه بعيداً عن شاب من المنصورة كان قد وصل إلى لامبيدوزا منذ شهرٍ، قادماً من ليبيا؛ فإن الباقين جميعهم كانوا يعملون كحمالين في مركز الغذاء في روما. إنه المكان الرئيسي لبيع الفاكهة والخضروات بالجملة في جميع أنحاء العاصمة، تبلغ مساحته 45.000 متراً مربعاً على أبواب المدينة، في جويدونيا مونتيتشيليو، حيث يعمل آلاف الأشخاص، من بينهم مئات الحمالين الذين يعملون بشكلٍ غير قانونيٍّ لدى أصحاب العمل. تماماً مثل الستة عشر مصرياًّ التي قامت إيطاليا لتوها بترحيلهم. شبابٌ بدأ منذ وصوله صقلية – منذ أربع أو خمس سنوات – العمل بجِدٍّ. تحميل وتفريغ، نوبات ليلية، أعمال إضافية. ليس لديه أي سوابق جنائية. أناسٌ يقضون حياتهم بين البيت والعمل. إلى أن جاء يوم الغارة التي شنتها قوات الشرطة على سوق الغذاء بروما
السابع والعشرون من تموز/يوليو الماضي. تسميها قوات الشرطة "تفتيشات تهدف لعرقلة الأيدي العاملة والهجرة غير الشرعية". أما الصحيفة الإيطالية الرئيسية (كورييري ديلا سيرا) فتقتصر على نسخ ما تردده شرطة الدولة، فنقرأ فيها عبارات مثل: "الأشخاص الذين تم القبض عليهم كانوا يترددون على مركز الغذاء بروما بحثاً عن فرص عمل مؤقتة، كالتحميل والتفريغ ونقل البضائع". كما لو كان ذلك جريمةً. لا أحد يخبرنا بالنهاية التي آل إليها هؤلاء العمال
Corriere تجدون التقرير الخاص بالحملات التفتيشية التي شنتها قوات الشرطة على الأسواق العامة بروماعلى
في عام 2011، تم تكثيف عمليات التفتيش. مئات الحمالين انتهى بهم الأمر في أقسام الشرطة. مصطفى أحدهم. شاب يبلغ من العمر 33 عاماً، مصري الجنسية، مسقط رأسه محافظة الغربية، على دلتا النيل، مثل باقي الستة عشر الذين تم ترحيلهم يوم الأحد. في الأسواق العامة، كان مصطفى يعمل في قسم فروتيتال، وهي شركة رائدة في إيطاليا مختصة باستيراد الفاكهة الغربية من أمريكا الجنوبية. العقد قانوني، والمرتب منتظم. كل شيء قانوني. ولكن ظاهرياًّ فقط. نعم، لأنه عندما قامت الشرطة بمضاهاة بيانات طلبه تصريح الإقامة بالأرشيف الذي يحتوي على بصمات أصابعه، اكتُشِفَ أنها ترجع إلى وصوله صقلية عام 2004، وإلى أول ورقة من نتيجة عام 2006. وقاموا بسحب تصريح الإقامة منه. بقية الأحداث وقعت يوم 8 حزيران/يونيو الماضي
كانت الساعة التاسعة صباحاً. كان مصطفى قد أنهى لتوه ورديته الليلية، وكان عائداً إلى منزله. المنزل الجديد – في جويدونيا مونتيتشيلو – الذي انتقل إليه منذ ثمانية أيام على سبيل الإيجار. كانت الشرطة هناك بالخارج، أظهر لهم جواز سفره المصري. كان به تأشيرة الاتحاد الأوروبي مختومة. نعم، لأنه صحيح أن مصطفى وصل صقلية عام 2004. لكن بعد ذلك – بعد أربع سنوات من العمل – وجد شخصاً مستعداًّ أن يبرم له عقداً، وفي عام 2008 عاد إلى مصر جواًّ، وتوجه إلى السفارة الإيطالية بكافة المستندات، وحصل على تأشيرة كي يدخل من جديد إلى إيطاليا استناداً إلى قانون تدفق العمالة. وهو الطريق الذي تسلكه الغالبية الآن التي لديها المستندات صحيحةً. تصل بلا مستندات، تعمل في الخفاء، تعود إلى بلدك، ثم تدخل مرة أخرى إلى إيطاليا بالتأشيرة وجواز السفر والعقد
الآن، مغامرة مصطفي في إيطاليا قد بلغت محطتها الأخيرة. السفارة المصرية هي أقدر الجهات على التعرف على رعاياها وترحيلهم. وإذا لم يحدث أي شيء غير متوقع، فمما لا شك فيه أن مصطفى سيُجبَر على العودة إلى الغربية. إلا أنه لا يزال يأمل في حدوث العكس. لذلك طلب من شقيقه – الذي يعيش في روما مع ستة من أقربائه – أن يدفع له إيجار الشهر الخاص بمنزل جويدونيا. فبداخل هذا المنزل، توجد كافة أغراضه، ولا يريد أن يتم طرده لعدم دفعه الإيجار
أيضاً لأنه في مركز تحديد الهوية والترحيل، مع صدور القانون الجديد، قد يقضي فيه مدة تصل إلى 18 شهراً. هو الذي لم يُسجَن أبداً، والسابقة الوحيدة التي ارتكبها هي القيادة بدون رخصة. مر على دخوله شهران ونصف، ولكنه لم يعد قادراً على فعل شيء. منذ اليوم الأول للاحتجاز، يصر على عدم تناول الأدوية النفسية، كما تفعل تقريباً الأغلبية في بونتيه جاليريا. يقول أنه لا يريد أن يدمر مخه، ولكن هكذا ستكون الأمور صعبة عليه للغاية. وخاصةً في هذه الأيام وقد بدأ شهر رمضان. وهو الشهر المُعَظَّم الذي ينتظره كل مسلم متدين خلال السنة بأكملها. الحلويات، الهدايا، الأعياد، قضاء الوقت مع الأسرة. في عام 2011، هذه الأمور لن تكون موجودة. سيقضي شهر رمضان خلف القضبان، يتناول أطباق المكرونة المُعَدَّة في أطباق مطعم مركز تحديد الهوية والترحيل التي يتم استخدامها لمرةٍ واحدة ثم تُلقى في القمامة. في مصر، كان قد تعلم أن العمل يجعلك حراًّ، ولكن في إيطاليا اكتشف العكس
ترجمة: محمد نجيب سالم