متى سترحل إذاً، اليوم أم غداً؟ هكذا يمزح جون مع حمادي في الساحة الصغيرة أمام المسجد. يضحك الإثنان وفي النهاية يتصافحان. فقد نجيا بأعجوبة، والآن يشعران أنهما لا يقهران. فمنذ أيامٍ قليلةٍ، واجها الموت. تلك الليلة لم يكن يفعل جون شيئاً سوى الصراخ كالمجنون: "نينا! نينا!" نينا – الزوجة – كانت المرأة الوحيدة على متن القارب. نجت هي الأخرى. نجوا جميعاً. لكن الأمر كان من الممكن أن يتحول إلى مذبحة. حمادي وجون هما اثنان ضمن الخمسة وعشرين الناجين من إحدى حوادث الغرق التي تتكرر بكثرة في بحر إيجة، والذي لم تتعامل معه هذه المرة شرطة خفر السواحل اليونانية، بل شرطة خفر السواحل التركية. وقعت الحادثة في الرابع من يونيو 2008، في نقطة غير معروفة عند السواحل التركية، على بعد ساعتين بالسيارة من مدينة إزمير. قابلت حمدي في إزمير، وهو شاب إفواري ولاعب كرة قدم محترف يبحث عن الثروة. في حي باسماني. عدد من الشوارع الضيقة خلف البازار الكبير، الذي يقع في قلب الحي، في المنطقة القديمة من المدينة. إنها المرحلة قبل الأخيرة التي تسبق الرحيل. وبعد دفع الرسوم المطلوبة للمُسَفِّرِين في إسطنبول، ينام هنا على الأقل لمدة ليلتين كل مَن سيعبرون بحر إيجة. الفنادق الاقتصادية الموجودة في الحي تغض الطرف عن مطالبة زبائنها بالمستندات، وهي متوفرة طوال العام. على بارات أزقة الحي يجلس السودانيون والصوماليون، الإريتريون والسنغاليون والإفواريون. وأيضاً العديد من الجزائريين والمغاربة
يتطلع الكثيرون ممن يسلكون البحر المتوسط للوصل إلى بلدان أخرى بصورة غير شرعية يتطلعون – وبشكل متزايد – إلى بحر إيجة. في الواقع، انخفض عدد من يذهبون إلى جزر الكناري بنسبة 60٪ مقارنة بعام 2006. وخلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2008 بلغ عدد الواصلين إلى الجزر الأسبانية 4557 مقابل 5594 هو عدد الذين وصلوا إلى تلك الجزر في نفس الفترة من عام 2007. يرجع سبب ذلك إلى عمليات الإعادة القسرية التي تنفذها فرق منظمة فرونتكس والتي تنص عليها اتفاقيات إعادة القبول، والتي – بالنسبة للمغرب والسنغال - تشمل أيضاً القصر غير المصحوبين. وبالتوازي مع ذلك، تضاعفت عمليات الوصول على سواحل إيطاليا ثلاث مرات خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2008. كما زادت أيضاً عمليات الوصول على السواحل اليونانية المطلة على بحر إيجة. في الأشهر السبعة الأولى من عام 2008 تم اعتراض 7263 شخصاً في بحر إيجة مقابل 9240 طوال عام 2007. باتت الممارسات التي تنفذها شرطة خفر السواحل اليونانية غير مجدية، والتي اتُّهِمَت من قِبَل منظمة "برو أزيل" بإجبار قوارب اللاجئين على العودة إلى تركيا وإغراقها. وهو الأمر الذي أصبحت شرطة خفر السواحل التركية تتبناه
كنا 25 – هكذا يحكي حمادي - وكنا في عرض البحر منذ ساعة تقريباً، عندما شاهدنا نوراً شديداً آتٍ نحونا. ثم سمعنا صوتاً عالياً – باف! – واكتشفنا أنهم ثقبوا القارب. كان صوت انفجار. أعتقد أنهم أطلقوا علينا النار. بدأ القارب في الغرق. أصبحنا جميعاً في الماء. لحسن الحظ كان لدينا جميعاً سترة نجاة أو أنبوب هوائي حول الخصر. في النهاية، قام زورق الدورية التركي بإخراجهم أحياء من الماء ثم إلقاء القبض عليهم. أَطلق سراحهم بعد 24 ساعة وعادوا إلى باسماني لأن في مثل هذه الحالات يحق لك محاولة ثانية. ثم محاولة ثالثة. ثم لا يمكنك العودة إلى ديارك إذا كانت عائلتك قد استدانت من أجل إرسالك إلى أوروبا. نجح حمادي في المحاولة السادسة. وصل إلى اليونان منذ أيامٍ قليلة. تواصلنا عبر الهاتف
أما بالنسبة لفرانسوا فسيرحل في غضون أسابيع قليلة. هو من بوركينا فاسو. التقيت به في حي كونكابي، في إسطنبول. مثل حمادي، وصل تركيا بعد أن تخطى الحدود السورية بصورة غير شرعية. تسير الأمور على النحو التالي: تصل إلى دمشق بتأشيرة سياحية، يمكنك الاتصال برجل من جنسيتك، ثم يصطحبك المرشدون السوريون الذين من حلب – وسيراً على الأقدام – يصطحبون كل ليلة مجموعات من 20 أو 30 شخصاً على ظهر بغال ثم – عبر الغابات - يتجاوزون الحدود، متجهين إلى مدينة هاتاي التركية (أنطاكيا القديمة). تستغرق عملية المشي هذه ست أو سبع ساعات. كان فرانسوا مع مجموعة من البوركينيين، والمصريين، والبنجلاديشيين، والسريلانكيين. كانوا قد دفعوا 700 دولار إلى أربعة مرشدين سوريين. أحد المرشدين كان يسير بعيداُ عن المجموعة، وكان يعطي توجيهاته إلى باقي المرشدين عبر الهاتف. عند تلك النقطة، وجدنا أن الحدود بين تركيا وسوريا محاطة بلفائف من الأسلاك الشائكة التي لا يتجاوز ارتفاعها عن متر ونصف. كان المرشدون يراقبون حركة كاميرات المراقبة، وعند اللحظة المناسبة يعطون أمر تخطى الأسلاك الشائكة. بعد ذلك يكفي أن تستقل حافلة من أنطاكية لتوصلك إلى إسطنبول. لكن الأمور لم تسر على ما يرام بالنسبة لفرانسواه. تم اعتراض جماعته من قبل الشرطة التركية، وانتهى بهم الأمر داخل إحدى معسكرات الاعتقال، في هاتاي، حيث أمضوا ستة أشهر. يتذكر فرانسوا تلك الأيام هكذا: "كنا في مكانٍ داخل مركز الشرطة. كان مكاناً به غرفتين، مطبخ وحمام،لا تزيد مساحته عن خمسة أمتار في عشرة. كنا 150 شخصاً. كانت هناك أسِرة مرتفعة، ولكنا كُنا ننام في كل مكان. على الأرض، وتحت الطاولات، وفي الحمام". كانت عملية إلقاء القبض عليهم قد تمت في 23 نوفمبر 2007، في أوج فصل الشتاء. "كان الجو بارداً، مَن كان لديه سروالين كان يرتديهما فوق بعضهما". كان الغذاء قليلاً، والرعاية الصحية معدومة
لا يتحدث الكثيرون عن ظروف الاحتجاز في تركيا. التقرير الوحيد نشرته مؤخراً جمعية هلسنكي للمواطنين. شهادة فرانسوا تؤكد كافة أوجه الاتهام التي جائت بالتقرير. "كانوا يضربوننا، خاصةً قبل وبعد الاستجوابات. بعد إلقاء القبض علينا، كان ينبغي أن يبت إحدى القضاة في أمرنا، ومدى إمكانية ترحيلنا من جديد إلى الحدود. كنا نعلم أنه كي لا يقوموا بترحيلنا إلى سوريا، كان علينا ألا نقول أننا دخلنا عن طريق حلب. كنا نكذب كي ننقذ أنفسنا. لكن الشرطة كانت توسعنا ضرباً بالهراوات لهذا السبب. تعرض أحد الشباب لضرب مبرح أقعده في الفراش لمدة شهرين، قبل أن يتمكن من الوقوف على قدميه من جديد". إحدى أشكال التعذيب المستخدمة رش غاز الأوكسجين في العيون. وهو يسبب شعوراً بالاحتراق لا يمكن احتماله. هناك أيضاً الحبس الانفرادي. زنزانة الحبس الانفرادي ليست صغيرة إلى حدٍّ كبير، ولكنها قذرة للغاية. كايوم وأمل – من بنجلاديش – قضيا داخلها 48 ساعة بعد أن رفضا التحدث إلى سفارة بلدهما. بالنسبة للنساء، الوضع أكثر صعوبة. "أفراد الشرطة يقومون بمغازلتهن – هكذا يحكي فرانسوا – مستغلين نفوذهم. كانوا يدخلون ليلاً ويأمرون الجميع بالدخول إلى غرفهم، ثم كانوا يأخذون معه بعض النساء، إلى الطابق العلوي. كانوا يعطون بعضهن المال. أما البعض الآخر فكانوا يهددوهن بأنه لن يُترَك سراحهن إذا رفضن ممارسة الجنس معهم
تحت وطأة التهديدات والعنف، يفقد البعض رشده. حدثني فرانسوا عن توكوتي – نيجيري - والذي - في الآونة الأخيرة – كان يتبول على السجناء الآخرين، وكان يتشبث بسيقان رجال الشرطة، ويجول بملابسه الداخلية، ويبكي، سائلاً ربه لماذا. ثم هناك رافائيل. يعيش في إسطنبول. قابلته في الشقة التي كان يعيش فيها فرانسوا مع عشرات البوركينيين. أيضاً هو من بروكينا. لديه 32 سنة. ينحدر من قرية صغيرة، ولا يجيد التحدث حتى بالفرنسية. كان أخوه – من أسبانيا – هو مَن دفع له مصاريف السفر. يجلس على فراش ويهز رأسه للأمام وللخلف. يبكي من حينٍ لآخر. يشعر بالخوف. يخشى أن يقتلوه. قامت الشرطة التركية بتهديده وضربه أثناء احتجازه في هاتاي لدرجة أنه بات يشعر أنهم يلاحقونه. عند عقبيه تظهر آثار القيود الحديدية التي كبلوه بها لأيام. وعظام ساقيه مشوهة من كثرة ضربات الهراوات التي تعرض لها. بالنسبة لأفراد الشرطة، كان الأمر يبدو مسلياًّ. يقول أنهم كانوا يضعون المسدس على صدغه ويهددوه بالقتل. منذ أن وصل إلى إسطنبول، لم يرغب في الخروج من غرفته لمدة ثلاثة أشهر، خوفاً من أن يراه رجال الشرطة
اتصلنا بأحد المحتجزين في هاتاي، فرانسوا لديه رقم هاتفه. لا يمكننا الكشف عن اسمه أو جنسيته، لدواعي أمنية واضحة. يكفي أن أقول لكم أنه لديه كافة المستندات التي تمكنه من الحصول على حق اللجوء السياسي في أوروبا. هو محتجز في هاتاي منذ ثمانية أشهر. يحكي لنا أنه تعرض لرش الأوكسجين في عينيه بعد أن رفض التحدث إلى سفارته عبر الهاتف. يقول أنه حالياً يوجد 103 محتجزاً. سوادنيٌّ، وخمسة صوماليين، وليبيريٌّ، ونيجيريان، و22 بورميين، و13 بنجلاديشيين، و10 إريتريين، و26 أفغانيين. يبلغ عدد النساء 15: تسعة من أفغانستان، وواحدة من إريتريا، وأربعة من الصومال. هناك أيضاً خمسة أطفال: ثلاثة أفغان، وطفل صومالي، وآخر إريتري. أصغرهم لديه ستة أشهر، وأكبرهم تسعة أعوام. تم نقل 13 بنجلاديشياًّ. ربما نقلوهم إلى الحدود مع إيران، لأنهم لم يكن لديهم أموالاً لدفع ثمن تذكرة طائرة الترحيل. إجراء معتاد هو إعادة نقل المحتجزين إلى الحدود، والذي شهد في 23 أبريل الماضي وفاة أربعة رجال، من بينهم لاجيء إيراني، وذلك أثناء نقلهم إلى الحدود مع العراق، بالرغم من انتقادات المفوضية العليا لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، والتي تدعم في تركيا 13000 بين لاجئين وطالبي لجوء. ووفقاً لمصدرنا، فإن محتجزين آخرين بهاتاي من المحتمل أن يكون تم نقلهم خلال الأشهر الماضية إلى نيجيريا وبنجلاديش والهند وباكستان وسريلانكا والمغرب ومصر
ذهبت مع فرانسواه إلى رصيف المشاة بأكساري حيث يبيع عليه ساعات صينية بخمسة يورو. قضينا المساء بحثاً عن معلومات بخصوص اللاجيء الصومالي الذي قٌتِل في مركز احتجاز كيركلاريلي - بالقرب من الحدود اليونانية - بواسطة عيار ناري أطلقته عليه الشرطة. ولكن يبدو أن أحداً هنا يعرفه. شوارع أكساراي وكونكابي تبدو قطعة صغيرة من أفريقيا. أما زيتينبورنو، فيعيش فيها الأفغان. بينما كورتولوس وتارلاباس، فيعيش فيها العراقيون. يتكدس كل منزل بعشرات الأشخاص. أرضية الغرف – الخالية من الأثاثات – تغطيها الفرش. لا توجد ملائات. الكل ينتظر الرحيل. تحت أنوار مصابيح الشوارع مجموعات من أبناء البلد الواحدة، صوماليين، وأريتريين، وسنغاليين، وسودانيين، يتبادلون النصائح الأخيرة المفيدة والخاصة بالسفر، ويقارنون العروض المختلفة التي يقدمها المسفرين الذين يعملون لديهم. بالقرب منهم، على بعد خطوتين من المطاعم السياحية، وجوه المهاجرين المحتجزين في مركز شرطة كونكابي تبدو قاتمةً بين القضبان الحديدية
قبل أن يودعني، بدأ فرانسواه يغني إحدى أغاني الراب التي كانوا قد ألفوها في هاتاي، سواء لكي يتمكنوا من قضاء الأيام، أو ليتذكروا أن العقل ليس دائماً وأبداً سلاح الفائز
إذا كنت تريد أن تقتلني، اقتلني! اقتلني!
لن أتبعك أبداً إلى الحدود السورية.
ليس لدي أم، ليس لدي أب، لدي فقط إلهي!
قبل أن تخبرني
بأن تركيا دولة ديمقراطية،
الآن أصبحت أعلم أن هذا ليس صحيحاً!
والآن لماذا تريد نسائنا؟
هل أنت رجل مجنون! نعم أنت رجل مجنون!
ترجمة: محمد نجيب سالم