
ما يروونه عند العودة يرسّخ لخيال تأثّر منذ سنوات بمناهج أوروبية، أشرطة أمريكية، أفلام إيطالية و فرنسيّة على القنوات الفضائية، إشهارات، بطولات الدّوري في كرة القدم، ساعات و ساعات على الشبكة العنكبوتيّة في مقاهي الإنترنات المكتظّة دوما و المنتشرة في كلّ أنحاء المدينة. لدى كل الشبّان أصدقاء من الضفّة الشمالية للمتوسّط ، يتواصلون معهم عبر سكايب أو ماسنجر. لا بُدّ من الرّحيل. الحقيقة أنّ الجلوس أمام شاشة الكمبيوتر أو مشاهدة أحدث فيديو كليبات الهيب هوب أكثر واقعية بكثير من ضجيج الشارع أو أصوات الحمير في الخارج. لم يعد أحد يريد الخروج كل صباح يجرّ عربات محمّلة بالبرتقال المعدّ للعصير أو أكوام من الأحذية و الملابس الصّينية، للسّوق. على الرّصيف يجلس جيل تائه. في كل زاوية، يجلس رجال من جميع الأعمار على مقاعد مع معدّاتهم المتمثّلة في فرشاة و صبغات، ينتظرون أحذية لتلميعها مقابل بعض الملّيمات. في حين ينهمك عمّال النّظافة، كلّ صباح، في تنظيف الأنهج التي يقام فيها السّوق، يتجمّع رجال كُثر في السّاحة، كُلٍّ بمعدّاته، ينتظرون لعلّ أحدهم يأتي بحثا عن عامل بناء، إختصاصي مواسير أو عامل تزويق ليوم عمل واحد. رسميّا هنا، ليس للبطالة وجود. على بطاقة الهويّة و في خانة المهنة، يُكتب في هاته الحالات "عامل يومي" .
نحن في عزِّ شهر رمضان، لذلك تتقدّم وتيرة الحياة في المدينة بضع ساعات عن المعتاد. لا يوجد محلّ مفتوح حتى السّاعة الحادية عشرة صباحا. يخيّم الهدوء على الأنهج، درجة الحرارة مرتفعة. و حوالي الرّابعة مساءًا يبدأ النّاس في التجمّع حول المخابز و في الأسواق، في حين تنبعث من امنازل رائحة الحلوّيات و الحساء المُعَد للإفطار. وجبة ما بعد الغروب لإنهاء يوم صيام يبدأ قبل شروق شمس كل يوم من الشهر المقدّس للإسلام. في الشّوارع تنتصب أقداح الشاي تغلي، فتختلط رائحة النّعناع مع تلك المنبعثة من عوادم سيّارات الدّيزل القديمة التي تلوّث الهواء في كل مرّة تمرّ فيها.
"إيطاليانو؟ كيف حالك؟ طوطي،..." . الكلّ هنا يعرف بعض الكلمات الإيطالية كما أنَّ شاب من عشرة يرتدي قميص الفريق الإيطالي، أبطال العالم. في الساحة وصل العازفون للثّعابين و يتنافس الكبار في دفع كتلة من الحديد على مسار منحدر لإصابة الفتيل وإطلاق الألعاب النّارية، للمِنصّة القديمة، في الهواء. ليس بعيدا، في الحدائق الصّغيرة خلف الحي الفرنسي، يتجمّع الشبّان الأصغر سنّا لعزف القيتارة مغنّين النّيرفانا في حين يلعب الأطفال بالإختباء في عربات قاطرات البضائع الرّابضة في المحطّة للإنطلاق بحمولة الفسفاط في إتّجاه الدّار البيضاء. فجأة تنبعث الأغنية الإيطالية الشهيرة "دعوني أُغنّي..." من منصّة بائع متجوّل. في الخفاء، تبدأ بنات اللّيل في الخروج بأحذيتهِنّ ذات الكعب العالي، جينز، ماكياج و أحمر شفاه فاقع، يتّجهن نحو محلاّت مقهى رانياسين، بجانب المركز التّجاري. أين إلتقيت أخيرا بلقاسم باكو.

يقع إيواء المشاركين من طرف أحد أعضاء الشبكة، أحيانا في فندق، أحيانا أخرى مختبئين في فيلاّ أحدهم، أحيانا متراصّين في أكواخ في الأرياف الخالية أو في منازل صغيرة بالضّواحي. يشكّل المهرّبون و الشرطة فريقا و شركة واحدة. في العادة تشتري المنظَّمة حماية قوات النّظام ويتم الإتفاق على الطُّرق و المداهمات اللاّزمة للمحافظة على سمعة و صورة أعوان الشرطة. بكلّ الوسائل، حتى الإيقافات في صفوف المشاركين تعود بالنّفع على خزينة الشركة. قبض المهرّبون ثمن تذاكرهم، لايمكن إسترجاعها و صالحة لرحلة واحدة. يمكن إثراء الشرطة على خلفية أنّ المعتقلين سيكونون على إستعداد للدّفع، نقدا أو بواسطة تحويل وسترن يونيون، لتُفتح الزّنزانات. عندما تجهز السفينة، مشتراة بثمن بخس أو مسروقة، يأمر الزعيم بالإنطلاق و ينقل المسافرون تحت جنح الظلام إلى شاطئ البحر، بعيدا عن الأنظار و تحت حماية الشرطة، بإسثناء الحالات الّتي لم تُشترى الشرطة فيها. شخص آخر يهتم بقيادة الرحلة، و لو أنّه في الآونة الأخيرة، و إحقاقا للحق، من النّادر جدّا أن يجلس أحد أعضاء الشبكة وراء عجلة القيادة. يمكن أن يصل ثمن التذكرة حتى 3.000 يورو، كما يمكن أن يكون بالمجان أيضا. كل ذلك يتوقّف على المعرفة و الظروف. المسافرون هم من الشبّان و المراهقين، و حتى الفتيات مع أطفال صغار جدّا في الفترة الأخيرة. في المغرب يهاجر على حدّ السّواء من عائلات الفلاحين و من " العائلات الكبيرة". بحثا عن عمل أو جريا وراء سراب تكوّن على إثر مشاهدة الأفلام أو جرّاء روايات العائدين. تطلق صفة المهاجر غير الشّرعي مبكّرا. لأنّ الحصول على تأشيرة سياحيّة في تلك الدّول أمر مستحيل عمليّا. الدّخول بسبب الشّغل مستحيل أيضا، لأنّه لا أحد يمكنه أن يتحمّل مسؤولية أجنبي لا يعرفه.

في منزل عائلة الرّفالي، ينتظرنا السيد العربي، والد كريمة، وبرفقته ناديا، أصغر أفراد العائلة، لها ستّة سنوات من العمر. يشتغل العربي كإسكافي، يصلح الأحذية القديمة. إرتدى بالمناسبة لباسا إحتفاليّا. معطف قديم من الطّراز الإيطالي، بنّي اللّون و به مربّعات. يبتسم من تحت شنبه، لا يتكلم الفرنسية لذلك قام باكو بدور المترجم. تركنا الأحذية في مدخل غرفة صغيرة، و الوحيدة بجانب مطبخ الغاز. جلسنا على الزّرابي، نتوسّط الوسائد، و من فوقنا سقف أخضر من البلاستيك المقوّى. في الخارج تنتظرنا أسر الشبّان الثلاثة مع مجموعة كبيرة من الأطفال. من بينهم أيضا أشرف، إبن كريمة ذي الست سنوات. كريمة بكر والديها، بين ستة أبناء. طلّقت منذ سنتين و تعيش مع إبنها في منزل والديها في بولانوار. تشتغل كخادمة منزلية في الخريبقة و بالمدّخرات القليلة تعين والدها على مصاريف دراسة أشقّائها الثلاثة الصّغار. ومع ذلك تنجح كل شهر في إدّخار كنزها الصّغير. كانت تريد مغادرة أكواخ بولانوار، و الهروب من ذلّ العمل، و من الإشاعات السهلة في حق إمرأة مطلّقة. بشأن الموضوع، تحدّثت بسِرّية مع سميرة، صديقتها الوحيدة في بولانوار. الحظّ ينتظرهما وراء البحار. في الحي، كانت تُتَداول أنباء عن خيط إتّصال في طرابلس. في الأخير، غادر الأربعة في سرّية تامّة بين شهرَي جويلية و أوت. لم تكن سميرة تريد إخبار والديها بشيء، قالت أنّها وجدت عملا في الدّار البيضاء و أنّها يمكن أن تغيب لبضعة أشهر. ما عدا أنّها، قبل أيام قليلة من المأساة، إعترفت لوالديها بأنّها كانت متجهة إلى إيطاليا. كانت تلك آخر مرّة إتّصلت بهم. سميرة كانت أصغر إخوتها. قبل أيام قليلة من لقائنا، إستدعت مصالح الحالة المدنيّة بالبلديّة العربي و محمد، والد سميرة.

في المقابل يبقى مصير السّعيدي مجهولا. النّاجي الوحيد من بين الشبّان الأربعة لبولانوار أكّد في مرحلة أولى بأنّه رآه على متن السّفينة، ثُمّ تراجع. زوجته تتمنّى أن يكون قد تمّ إيقافه قبل الصّعود في الرّحلة. لكن القصّة مثيرة للجدل. السّعيدي كان يتيما و هو أكبر إخوته الخمسة. عمره 26 سنة و لكنّه يعمل منذ صغره لإعالة أشقّائه الصّغار. تزوّج سنة 2003 من أمينة. تنتظر زوجته مولودها الأوّل. لم يكن يريد لذلك الطّفل أن يتذوّق مرارة الحياة، ثمن الوحدة و اليُتم، و الذٌل الذي رافق دائما حياة الأب. كان قد بدأ في دراسة اللّغة الإيطالية بواسطة مُعجم صغير إشتراه من إحدى مكتبات المدينة و في نفس الوقت يجمع المال في سرّية لتحقيق هدفه، في أوقات الفراغ بين الأعمال اليدوية التي ينجح في إيجادها يوم بيوم. خاصّة و أنّ الشبّان الّذين تربّى معهم في الشارع عادوا من إيطاليا بسيارات جديدة لمّاعة، و إنتقلوا بالسٌكنى بولانوار إلى الأحياء السّكنية الجديدة. ليسوا أحسن منه. لماذا لا يُجرّب؟ سيموت؟ و هل كانت تلك حياة؟ إتٌخذَ القرار. تداين المال و غادر. لكي لا يُقلق زوجته، الحامل في الشهر التّاسع، لم يخبرها بشيء عن إيطاليا؛ بالنّسبة لها ذهب للعمل في ليبيا. أخبر شقيقته، في الدّار البيضاء. كان يريد العودة بعد بضعة أشهر بهديّة جميلة للمولود. أيام قليلة قبل المأساة، كان الإنذار. إتّصل السّعيدي بشقيقته، كان مذعورا. قال لها أنّه لم يعد يريد السّفر، أنّه يجب أن يعود إلى المغرب، كان مشوّشا. فجأة وجد نفسه متشبّثا جدّا بالحياة للمغامرة بكل شيء. و لكن وليد، منظّم الرّحلة، سرق جميع وثائقهم؛ لا مجال، لشهود العيان، للعودة إلى الوراء. ستة عشر يوما بعد الحادثة، وُلد الطّفل أمين يتيما.