22 January 2012

الربيع العربي داخل مراكز تحديد الهوية والترحيل في ايطاليا

مركز تحديد الهوية والترحيل في تورينو, 6 نوفمبر 2009

إضرابات عن الطعام، وأشخاص تلحق الضرر بأنفسها، وحرائق، وعمليات هروب، وأعمال شغب أخرى. سيذكر الناس عام 2011 على أنه أكثر الأعوام سخونة في تاريخ مراكز تحديد الهوية والترحيل بإيطاليا. المتمردون هم شباب تونسيون وصلوا إلى لامبيوزا وكان مصير الآلاف منهم هو الاحتجاز داخل مراكز تحديد الهوية والترحيل، بعد الاتفاق الذي أُبرم بين روما وتونس في 5 أبريل 2011. أمام استحالة الاعتراف بحقم في السفر بالطرق القانونية، قرروا أن يتسعيدوا هذا الحق بآخر شيء تبقى لديهم: أجسادهم. نفس الأجساد التي وقفت في وجه أعيرة نظام بن علي النارية أثناء ثورة يناير في تونس. الأجساد التي عبروا بها البحر، والتي يحاولون بها الآن تسلق الأقفاص المحتجزين داخلها، والمخاطرة بأن ينتهى بهم الحال إما داخل إحدى المستشفيات وعظامهم متكسرة إثر تعرضها لضربات الهراوات، أو داخل السجن بتهمة الاعتداء على موظف حكومي أثناء تأدية عمله.

المقارنة بالثورات الشعبية لدول حوض البحر المتوسط ليست نوعاً من أنواع المبالغة. من سنحت له الفرصة للتعرف شخصياًّ على الشباب التونسي الذي وصل إلى إيطاليا العام الماضي سيرى أن - بصرف النظر عن أن عدد قليل منهم من السجناء السابقين الذين هربوا من السجون التونسية – معظمهم من الشباب الذي شارك في المظاهرات الاحتجاجاية التي شهدتها الثورة التونسية. سواء أنهم من أحياء تونس الشعبية (ملاسين، حي النور، جبال الأحمر، الكبَّارِيَّة، حي تدهمون) وصفاقس، أو من المناطق الريفية النائية في الجنوب (زرزيس، مدنين، تطاوين، قفصة، قابس)، لم يتخلَّ أي منهم عن الثورة. بل على العكس، قال بعضهم أنه – بعد الثورة – اكتسب الشجاعة الكافية للقيام بمغامرة السفر. اكتسبها بعد أن تعلم أن الثورة حق. ضد النظام أو ضد الحدود. وأيضاً لهذا السبب – بعد موجة طويلة من الهذيان الجماعي فور انتهاء الدكتاتورية – رحلوا بالآلاف، وخاصة أولئك الذين لطالما راوضهم حلم السفر. رحلوا وفي عقولهم نفس الكلمتين التي كانوا يرددونها في الميدان وقت الثورة: الحرية والكرامة

كي يتمكن أي رجل أو امرأة من العيش بكرامة، فهو في حاجة إلى عمل، ورؤية مستقبلية واضحة، ولكي يتمكن من تحقيق ذلك ينبغي أن يكون حراًّ في التنقل والبحث عن مكانه في هذا العالم. هذه الحرية وتلك الكرامة التي لطالما آمن بها هؤلاء الشباب لدرجة أنهم غامروا بحياتهم وسط أمواج البحر، واستمروا في إيمانهم بهذه القيم عندما قرروا أن يثوروا على عمليات الترحيل القسرية المتلاحقة، من خلال تخطي الحدود وتحطيم مراكز تحديد الهوية والترحيل، أو من خلال إلحاق الأذي بأجسادهم، وقطع شرايينهم، وابتلاع قطع الزجاج والحديد، لينتهي بهم المطاف داخل المستشفى وينجوا بأنفسهم من الترحيل

ويبنغي على أولئك الذين يدينون العنف الجسدي من قبل المحتجزين ضد الشرطة وضد أماكن الاحتجاز كمراكز تحديد الهوية والترحيل، ينبغي على هؤلاء أن يفكروا أولاً في العنف المؤسسي المتمثل في عمليات الإبعاد القسرية التي لا تتوقف. تحدثنا عن ذلك طوال عام 2011. وأوضحنا كيف أن دستور إيطاليا في وقت من الأوقات كان يكفل عدم المساس بحرية الفرد، وكيف أصبح اليوم شيئاً عادياًّ أن يتم احتجاز شباب لمدة سنة ونصف بتهمة الإقدام على السفر. شباب كان سيتحقق حلمه بالوصول إلى جزيرة لامبيدوزا بدون مستندات إذا كانت جوازات سفرهم لها أي قيمة لدى سفاراتنا في الخارج. إذا كان الوضع هكذا، كانوا جميعاً سيحجزون تذكرة مخفضة على أول طائرة متجهة إلى ميلانو أو باريس

لكن الأمر غير ذلك. في عصر العولمة الذي نعيش فيه، أصبح السفر قاصراً على أصحاب السلطة والنفوذ. وأصبح مواطنوا الدول الغنية هم أصحاب هذا الحق. من ليس لديه جواز السفر المناسب، عليه أن يتخلى عن حلم رؤية العالم. إلا إذا قرر أن يثور ويتمرد. وربما علينا أن نفعل ذلك نحن أيضاً. ولنبدأ بإزالة الحدود التي تجملنا. وندرك أن على متن هذه القوارب هناك – منذ عشرين سنة – أكبر حركة تمرد على الحدود. تلك الحركة التي يجب أن نساندها إلى أن يأتي يوم تتحقق فيه حرية التنقل بين ضفتي البحر المتوسط

فيما يلي تجدون تسلسل زمني للانتفاضات وعمليات الهروب التي شهدتها مراكز تحديد الهوية والترحيل في إيطاليا خلال عام 2011. امتدت الاحتجاجات إلى كل المراكز، وخاصةً في شهري أغسطس وسبتمبر، عندما أقر البرلمان القانون الذي مَدَّ فترة الاحتجاز داخل مراكز تحديد الهوية والترحيل من 6 إلى 18 شهراً. واستناداً فقط إلى المعلومات التي استطاعت فورتريس إيوروب أن تحصل عليها، فإن عدد الهاربين خلال عام 2011 لا يقل عن 580 شخصاً. وهو رقم لم يسبق أن سُجِّلَ في أي وقتٍ مضى، ناهيك عن عشرات الجرحى والذين تم إلقاء القبض عليهم. لا توجد إحصائات رسمية بخصوص الخسائر والأضرار التي ألحقتها عمليات الشغب بمؤسسات الاحتجاز، ولكن يمكن التكهن بأنها تبلغ ملايين من اليورو؛ وذلك إذا نظرنا إلى الأقسام الكاملة التي دُمِّرَت واحترقت أثناء أحداث الشغب التي شهدتها مراكز تورينو، روما، ميلانو، جراديسكا، برينديزي، مودينا، بولونيا، علاوة على جناح كامل بمركز استقبال لامبيدوزا قد دُمِّرَ تدميراً كاملاً بعد أن التهمته ألسنة النيران

النصيب الأكبر من هروب كان من نصيب مركز روما لتحديد الهوية والترحيل، والذي استطاع أن يهرب منه 191 محتجزاً خلال شهري أغسطس وسبتمبر. في المرتبة الثانية يأتي مركز برينديزي، والذي تمكن 140 شخصاً من الهروب منه، ثم تأتي بعد ذلك تراباني (79 هربوا من مركزي ميلو وفولبيتَّا)، تورينو (59)، مودينا (35)، بولونيا (20)، و كالياري (2). أخيراً، حتى وإن كان من الناحية الفنية لا يمكن اعتباره مركزاً لتحديد الهوية والترحيل، أو ربما أكثر من ذلك، لأننا نتحدث عن مكان احتجاز غير قانوني، نذكر الـ 54 تونسياًّ الذين نجحوا في الفرار من هنجر ميناء بوتسالو، في راجوزا

في الواقع، لا يمثل عدد الهاربين من مراكز تحديد الهوية والترحيل – والذي بلغ 580 – أي أهمية بالنسبة لعدد من تعرضوا للإبعاد القسري. فإذا نظرنا إلى إجمالي المواطنين التونسيين الذين تم ترحيلهم من إيطاليا إلى تونس – والذين بلغ عددهم 3600 تونسياًّ – سنكتشف أن نسبة الهاربين من مراكز تحديد الهوية والترحيل تقل عن نسبة المرحلين بمقدار 16%. يظل هذا الرقم له دلالة كبيرة إذا تمت مقارنته بالإحصائيات التي أجرتها كافة مراكز تحديد الهوية والترحيل، حيث تشير التقديرات (وفقاً للبيانات التي أصدرتها مؤسسة كاريتاس ميجرانتيس عام 2009) إلى أن مراكز تحديد الهوية والترحيل تستقبل – في المتوسط – 11000 شخصاً كل عام، من بينهم 4500 شخصاً يتم ترحيلهم بالقوة إلى أوطانهم

بعد أن اطلعنا على كل هذه الإحصائيات، لم يعد هناك داعٍ لأن نخدع أنفسنا. كما أن الـ 580 شخصاً الذي تمكنوا من الفرار لن يدوم احتفالهم طويلاً. فالحياة في أوروبا بدون مستندات قاسية. الخوف من أن توقفك الشرطة وأنت ذاهب إلى أحد أصدقائك أو بمجرد خروجك من مدينتك. استحالة أن توقع على عقد عمل أو إيجار. من يحالفهم الحظ، يعملون في الخفاء، ومن لا يحالفهم الحظ، يعملون في الترويج للمخدرات. هذه محنة مر بها أغلب من يحملون الآن تصريح إقامة داخل بلد العفو وهي إيطاليا. بما في ذلك (تقريباً جميعهم) من وصلوا إلى إيطاليا على متن طائرة أو حافلة وبحوزتهم تأشيرة سياحية. انتظار المستندات يدوم أحياناً لشهور، وفي بعض الأحيان سنوات. وأحياناً أخرى لا يتم إصدار المستندات، وعندئذ يستحيل حصن أوروبا فخاًّ. متاهةً الدخول إليها أسهل بكثير من البقاء داخلها



ترجمة: محمد نجيب سالم