09 November 2011

تونس: مأزق المرحلين


ريبورتاج أعده أليسيو جينوفيزيه، مأخوذ من شريط صقلية الحدودي

في تونس في 10 أكتوبر، تستعد البلاد لإجراء أول انتخابات حرة في جو يملؤه البهجة والقلق معاً. في السابعة صباحاً تعج الشوارع بالركاب والموظفين. محطة منصوف بيه للميكروباص ممتلئة بالناس الذين يذهبون ويأتون من جميع أنحاء البلاد. هم ركاب وتجار يجلبون البضائع النادرة إلى جميع أنحاء البلاد. وسط الزحام، أسمع من ينادي: "أبو علي، أبو علي الصحافي". إنه كريم، أحد الـ 1300 تونسي الذين كانوا في لامبيدزوزا في 20 سبتمبر، عندما اشتعلت النيران في مركز حي إمبرياكولا. لايزال يرتدي نفس السروال والحذاء الذي أعطوه إياه لدى وصوله الجزيرة. لديه ابتسامة لا تفارق وجهه، ويسألني إذا كنت أتذكره. كان عددهم كبير، كبير جداًّ بحيث أنني لا أستطيع تذكرهم جميعاً، ولكن كريم أحد أولئك الذين ليس لديهم بعد لحية. أذكر ذلك جيداً، كان ضمن الثلاثمائة الذين قضوا الليلة في محطة البنزين الموجودة على الجزيرة، ضمن أولئك الذين تعرضوا للضرب والاعتداء بوحشية من قبل سكان لامبيدوزا. كان برفقة علي عيادي، صديق عمره، فتى في الثامنة عشر من عمره رحل معه في أغسطس من بن عروس إحدى الأحياء الأكثر الشعبية بمدينة تونس. عانقني وكأننا أصدقاء منذ سنوات. "كيف حالك؟ منذ متى وأنت في تونس؟" سألني وهو يصافحني، "تعال معي، سنسافر الآن". لم أفهم، "تعال وقم بهذه الرحلة معنا، هكذا نسترجع كل شيء". ها هو هناك كريم برفقة الحراقة، وبيده كيس من البلاستيك وهاتف خلوي جاهز لالتقاط كل شيء

تعكس عيناه حلم إحدى الصور التي كانت توضع على البطاقات التي كانت منتشرة في رزما في فترة الخمسينيات. فكرة أن إيطاليا تشبه إحدى أفلام فيليني الأبيض وأسود. ضجيج المحطة يغطي صوته الذي لم يتشكل بعد، أسمعه بالكاد. أعرف أنه لا يمزح، وأنه هناك ليستقل أول حافلة متجهة إلى سوسا حيث لديه موعد مع المسافرين الذين سيقلونه إلى صفاقس. أتسائل وأسأله ما فائدة القيام بالرحلة مرة أخرى وهو يعلم جيداً ما ينتظره فور وصوله إلى إيطاليا. وإذا بكريم يبتسم، ينظر حوله ثم يخبرني بأن له أربعة أعمام في إيطاليا منذ أكثر من 20 عاماً، وأنه بعد وفاة والده أصبح هو عائل أسرته المكونة من أمه وثلاث أخوات أصغر منه سناًّ، وأن العمل في تونس لا يسمن ولا يغني من جوع. "ما حدث في لامبيوزا لن يتكرر" هكذا يؤكد لي، "الآن نحن في طريقنا إلى جزيرة صقلية، سنصل مباشرةً إلى أرض الجزيرة، وهناك كلٌّ منا إلى طريقه، وأنا سأذهب إلى عمي في كاتانيا". أدهشني كثيراً إصرار كريم

هل الحلم الذي يعيشه لا يجعله يرى الحقيقة كما هي أم أنه مقتنع أن الحياة ستمنحه هدية تتمثل في إيطاليا؟ صافح كل منا الآخر، الحافلة التي سأستقلها ستتجه إلى سيدي بو زيد، بينما تتجه حافلة كريم إلى سوسا. ظللت أفكر طوال اليوم في الكلمات القليلة التي قالها لي ذلك الفتى غير الملتحي في محطة منصوف بيه. إذا كان كلامه صحيحاً، وأنه ذاهب كي يلتقي مع المسافرين، فهذا يعني أن "وكالة السفريات" – هكذا يسمي المسافرون المنظمات التي تقوم بتسفيرهم – تعد بعض الرحلات إلى إيطاليا، وبالتحديد إلى جزيرة صقلية. نحن في أواخر أكتوبر، والبحر هائج، وجزيرة صقلية بعيدة جداًّ بما يمثل خطراً كبيراً

قابلت سفيان في شارع بورقيبة، هو من تعرف عليَّ. لم أذكر وجهه على الإطلاق. في البداية ارتبت فيه، وظننت أن يكون أحد أولئك الشباب الذين يستوقفون السياح على الطريق المؤدي إلى البلدة. عيناه حزينتان، واكتشفت أنه تناول بعض البيرة. "أنت الصحافي الذي كان معنا في لامبيدوزا" قالها بإصرار "حميناك عندما حاولوا انتزاع كاميرة التصوير من يديك". بدأت أصدقه. ثم بعد ذلك إذا به يريني البطاقة التي استخرجوها له فور وصوله الجزيرة، العاشر من سبتمبر آخر الخمس زوارق التي وصلت جميعها في نفس اليوم، وأعطوه رقم 33. على متن نفس الخشبة كان يوجد 124 شخصاً، بينهم مولود جديد، وطفل ابن السنتين، وامرأة حامل. "ظللنا 25 ساعة في البحر قبل أن نصل إلى لامبيدوزا"، قالها وخيبة الأمل تملأ وجهه، "لقد رأينا الموت بأعيننا. كان القارب متهالكاً، وظل الأطفال يبكون طوال الرحلة. والآن ماذا عساني أن أفعل وقد خسرت كل ما كنت أملك في هذه الرحلة وها أنا هنا في النهاية، في تونس لا أفعل شيء". سفيان غاضب من القدر الذي أعاده إلى الخلف، ثم إذا به يشمر سرواله إلى ركبتيه ويريني جرحاً. "كانوا يضربوننا على ركبنا حتى لا نتمكن من الفرار، مر 20 يوماً ولم أتمكن بعد من السير بصورةٍ جيدة

أمضينا كل تلك الأيام جالسين على كراسي في صالة إحدى سفن خفر السواحل. كان عددنا 500، كنا عاجزين عن التجول، كما منعونا من التدخين، وكان هناك شرطيان يراقبانا، حتى داخل الحمام". سألته عما يفعله في هذه الأيام، وعما يخطط للمستقبل. "لا شيء، ماذا عساني أن أفعل؟ عائلتي على ما يرام، ولكنني أشعر أنني أحمق إذا بقيت معهم. عندي 28 سنة، وأريد أن أعيش حياتي، وأن أرى العالم، وأن أجد عملاً جيداً، وربما أفكر في الزواج. أحاول الآن أن أجمع بعض المال ثم أعاود الرحيل مجدداً. سأظل أحاول حتى المرة المائة، إلى أن أنجح. إذا كان معي القليل من المال، لكنت رحلت الآن". خيبة الأمل تملأ عيني سفيان، ولكنه لا يضمر كرهاً تجاه الإيطاليين، لا يزال يعتقد أن حياته ستكون أفضل في إيطاليا

طلبت منه أن ينادي على الرجل الذي قام بتسفيره في شهر سبتمبر كي أعرف إذا كانوا يجهزون لرحلاتٍ أخرى في الأيام القادمة. معلومات من ذهب، ولكنها غير مؤكدة بعد. ستنطلق رحلات ليلة الانتخابات، من جديد يقولون أن وجهتهم ستكون جزيرة صقلية، الجزيرة الكبيرة. ليس لدى سفيان المال للرحيل، ومع ذلك يطلب من المسئول عن التسفير كافة تفاصيل الرحلة. هذه المرة، ستتكلف الرحلة أكثر، فالطريق سيكون أطول، والمخاطر أكثر، وبالتالي التكلفة أعلى. بعد هذه المكالمة، إذا بسفيان يجري مكالمةً أخرى. اتصل بالشباب الذين كانوا معه في لامبيدوزا، عندما رحلوا سوياًّ من جبل الأحمر، وعادوا أيضاً سوياًّ على متن طائرة نقلتهم إلى مطار قرطاج. الجميع يعلنون استعدادهم الرحيل مرة أخرى غداً. "الحياة واحدة والموت أيضاً واحد، لا يمكننا أن نعيش ونعتقد أننا يمكننا الفرار من الموت" هكذا أخبرني جربو صديق سفيان "سنذهب حيث تملي علينا رؤسنا". بعد كل ما عاشوه، لا يزال هؤلاء الشباب يفكرون في إيطاليا وأوروبا. لقد رأوا بأعينهم الوجه القبيح المليء بالقمع لـ"إيطاليا المضيفة"، وكيف سُلِبوا حقوقهم، أجسادهم التي تعرضت للضرب، كل هذا ولايزالون يعتقدون نفس الشيء. فأوروبا شيء آخر مختلف تماماً عما يظنون. "إنها ليست الجنة، ولكني متأكد أن هناك يمكنني ادخار بعض المال والعيش بصورةٍ أفضل" هكذا يؤكد محمد. أيضاً هو كان في لامبيدوزا، ولا يفكر الآن سوى في العودة هناك مرةً أخرى

على الرغم من أننا في أواخر الشتاء، إلا أن "وكالة السفريات" في تونس لا تزال مستمرة في عملها. "طالما هناك طلب، سيكون هناك عرض"، هكذا أكد هـ. أحد المسفرين في تونس، "هذا هو منطق السوق، نحن نعمل على تلبية طلب هؤلاء الشباب، ولن يتم الانتهاء من تلبية هذه الطلبات لا غداً ولا بعد غد". لن تتمكن سياسات القمع التي تنتهجها كل من الحكومة الإيطالية ونظيرتها التونسية من إيقاف الحراقة. ولكي نفهم ذلك، يكفي أن نقوم بجولة في أحياء العاصمة وفي المناطق الأكثر فقراً في البلاد. حتى اليوم، الجميع يتحدثون ويخططون للسفر. النتيجة الملموسة الوحيدة لـ "مكافحة الهجرة" تبدو تكمن في تبرير وجود المنظمات الإجرامية التي تستفيد استفادة اقتصادية هائلة من مراقبة انتقال الأشخاص إلى إيطاليا