06 October 2011

الحب في زمن الحدود. ويني ونزار


رحلت ويني من هولندا. شعرها أشقر، وعيناها خضراء، وابتسامتها تُنير وجهها، إلا أن كل هذا يتلاشى في نظرةٍ حزينةٍ تملؤها الأفكار السيئة. حَمْلُها يجعلها تبدو أكبر من سنها (23 سنة). رجال الشرطة الذين يتولون حراسة مركز كينيزيا لتحديد الهوية والترحيل - حيث يتم احتجاز زوجها نزار – يعرفونها منذ زمنٍ بعيدٍ، ويسمحون لها بالدخول دون أن يطلبوا منها إبراز أية مستندات. يُسمَح لها بزيارته مرتين في اليوم. وتكون المقابلة تحت مظلةٍ كبيرةٍ بساحة المركز، تحت حراسة خمسة من رجال الشرطة. يتحدثان قليلاً وباللغة الإنجليزية. باقي المقابلة تسيطر عليها النظرات. يضع نزار يده على بطن ويني الكبيرة ليتحسس ركلات طفليهما. سيكون ذكراً. لم يختارا بعد الاسم. الشيء الوحيد الأكيد هو أنه عندما سيولد، سيضع نزار وشماً آخراً على ذراعه. نجمة صغيرة تحتوي على الأحرف الأولى من اسم المولود، وبجوارها نجمة أكبر تحتوى على الحرف الأول من اسم ويني

هذه النجمة الكبيرة كان قد رسمها في اليونان، قبل الزواج. وبحلول صيف 2010، تفتحت أوراق الحب على جزيرة كوس، حيث كانا يعملان مروجان لأنشطة إحدى القرى السياحية. كانت ويني لديها 22 سنة، أما نزار فكان لديه 28 سنة. بعد ثلاثة أشهر فقط، طلب نزار منها الزواج، وإذا بويني – التي لم تكن تفكر مطلقاً في الزواج – تجيبه بالموافقة. بعد حفل الزفاف، انتقلا إلى سوسة بتونس، عند عائلته. اشترا قطعة أرض، وبدآ في بناء منزلهما. مرت الثورة سريعاً كالعاصفة، دون أن تؤثر على مشاريعهما. حلت المتاعب لاحقاً مع الحمل

بدأت بطن ويني تتضخم، وأمام قلق ويني بعد العديد من الزيارات الطبية بمستشفي سوسة، تقرر ويني أن تلد في هولندا. لم يعارض نزار، بل إنه توجه إلى تونس للحصول على تأشيرة. وجاء رفض السفارة الهولندية بمثابة صفعة عنيفة أيقظته من عالم الأحلام. هل نسي العشر سنوات التي أمضاها في أوروبا، والبصمات، وأول مرة وصل جزيرة صقلية، والعنصرية؟ كانت هي مَن رفع من روحه المعنوية. كان هناك محامٍ سيتولى الأمر برمته، لم يكن هناك داعٍ لليأس. كان متزوجاً من مواطنة أوروبية، وكان ينتظر طفلاً من المفترض أنه سوف يحصل على الجنسية الهولندية. لمرةٍ واحدةٍ وقف القانون إلى جانبهم

ولكن – وعلى غير المتوقع – إذا بالمحامي يعطيه صفعةً أخرى. رفع دعوى قضائية سيستلزم خمسة أشهر. ويني – التي كانت قد رحلت بالفعل إلى هولندا – دخلت في شهرها الرابع من الحمل. وهكذا كان يتهددها خطر أن تلد وحدها، قبل أن يصدر حكم القضاء. لم يقبل نزار هذا الوضع. ذات مرة قرر المخاطرة، وهذه المرة هو مستعد لأن يفعل ذلك مجدداً. تخطى الحدود بشكلٍ غير شرعي لم يكن أبداً بالأمر اليسير. أجرى اتصالاته، وفي منتصف نيسان/أبريل رحل إلى لامبيدوزا. كان على وشك أن ينجح أيضاً هذه المرة، ولكنهم قاموا بترحيله بعد بضعة أيام. ولكن عناده دفعه للعودة مرة أخرى إلى زارزيس، محاولاً اللحاق بويني

لكن ويني هذه المرة لم تتركه يقوم بذلك وحده. فبمجرد أن علمت برحيله، ركبت أول طائرة متجهة إلى إيطاليا. تقدما بدعوى قضائية ضد الترحيل، معتمدان على أن هولندا – في هذه الأثناء - كانت قد أصدرت إلى نزار تأشيرة شنجن لأسباب عائلية. ولكن الوقت كان يمر يوماً بعد يوم، وإجابة القضاء كانت تتأخر أكثر. بينما كان موعد الولادة يقترب، غير مكترث بالبطء المزمن للقضاء الإيطالي. بقية الأحداث وقعت أثناء إحدى زيارات ويني اليومية لنزار

انتهت المقابلة، تخرج ويني من ساحة المركز، وفجأةً يحل بها تعب شديد، تصحبه إنقباضات قوية، والتي تنذر بولادةٍ قبل أوانها. تبحث بنظرها عن زوجها، ولكنهم قد أعادوه مرة أخرى إلى محبسه. تصل عربة الإسعاف بعد قليل، وتتوجه إلى مستشفى تراباني. خلف القضبان يصرخ نزار كي يتركوه يذهب إليها. ولكن لا تسمح له الشرطة بذلك، فاحتمال الهرب كبير. أعمى نزارَ الغضبُ والجرحُ. وإذا كان رجال الشرطة لا يستطيعون أن يضعوا أنفسهم مكانه، فالثلاثة والثمانون تونسياًّ المحتجزون داخل المركز يشعرون تماماً بما يشعر به نزار. يتحول غضب نزار إلى غضبٍ جماعيٍّ. ها قد حانت لحظة الانتفاضة

بدأ المحتجزون في تفكيك هياكل الخيام - حيث يتم إيواؤهم - لتسليح أنفسهم بالعصي والحديد. وعندما قام رجال الشرطة – قرابة التاسعة مساءً - بفتح البوابة لإدخال محتجز جديد، كان قد فات الأوان. اندفع المحتجزون صوب البوابة، وأخذوا في دفعها بقوةٍ لإجبار رجال الشرطة على فتحها. وكانت الغلبة للتونسيين الذين تفرقوا بعد ذلك في كل ناحية من المركز بين مزارع الكروم وبساتين الزيتون المحيطة بالمركز، والتي يغطيها حلول الظلام

نزار معهم. بالرغم من ضربات الهراوات التي تهوي على ركبتيه، إلا أنه يستمر في الركض، ساحباً خلفه ساقه المجروحة. متخفياً وسط الأشجار، يتابع من بعيد مصابيح للشرطة على الطريق السريع لتراباني. لا تزال ويني بالمستشفى، ولكنه في حالة جيدة، كان إنذاراً كاذباً، لم يأت الطلق بعد. في اليوم التالي، تخرج من المستشفى، وتتمكن أخيراً من رؤية نزار. ولكن لا وقت للعناق. فالشرطة تقتفي أثرهما. يجب أن يغادرا إيطاليا. تسافر ويني على إحدى الرحلات الجوية لشركة رينير، بينما يسافر نزار براًّ دون وثائق

في البداية أتوبيس، ثم قطار، ثم سفينة، ثم قطار آخر. ثلاثة أيام من السفر. إلى أن وجد نفسه في محطة أيندهوفن في هولندا. أنهكه التعب، ولكنه أصبح أخيراً قادراً على معانقة المرأة التي يحبها. ها قد وصل في الوقت المناسب لطلاء غرفة الطفل، وحضور ولادة رافائيل الذي جاء إلى النور فجر يوم 15 آب/أغسطس، بين مقابلةٍ وأخرى على التليفزيون الهولندي، والذي حَوَّل هذه القصة إلى قضيةٍ وطنيةٍ

الحب في زمن الحدود. سكينة وخيري
الحب في زمن الحدود. ويني ونزار
الحب في زمن الحدود. ناتالي وصلاح

ترجمة: محمد نجيب سالم