01 March 2011

رحلة التونسيين مستمرة. من باري إلى ڤانتيمي، يتابعون مغامرتهم

إنهم يسافرون دون حقائب و بملابس أخف من أن تستحمل شتاء الشمال. إنهم يغادرون إيطاليا. إنهم التونسيون الذين بلغوا لامبدوسا خلال الأسابيع الأخيرة. في غضون أسبوعين فقط، 1400 شخص على الأقل غادروا دون أن يتم الإنتباه إليهم. فلولهم لا تنتهي في محطة باري. جميع القطارات تفي بالغرض، و الوجهة واحدة: فرنسا. منهم من يفضل استقلال القطار فائق السرعة، حيث يبدو أن دوريات المراقبة تكون أقل صرامة في قطارات الأغنياء. و منهم من ينتظر القطارات الليلية المخصصة للمسافرين الٳعتياديين. سوف أرافقهم. العربة 19. ما أن شرع القطار في التحرك على سكته، حتى سمعت أحدهم يناديني باسمي، في الرواق. "ڭابرييلي!". كان هذا وليد، أحد شباب جرجيس الذين التقيت بهم في لامبدوسا. ثم عرض علي الجلوس في مقصورته.


قدمني إلى رضا و أحمد، و هما من جرجيس كذلك، بينما كان رابعهم نائما. كان فمه فاغرا و وجهه مستندا على النافذة. سوف يبلغون ڤانتيمي على الساعة الواحدة بعد الزوال، بعد قيامهم بتغيير القطار في طورطونا. بعدها سيتابعون طريقهم عبر سيارة مهرب تونسي حتى طولون، قبل أن يشق كل منهم طريقه الخاص. يبلغ ثمن عبور الحدود الفرنسية دون وثائق قانونية 400 يورو للفرد. الثمن غال شيئا ما، و لكنه على كل حال أفضل من المغامرة، فالشرطة الفرنسية كثفت دوراتها التفتيشية في القطارات و في محطات كان و نيس. أما السلطات الإيطالية، فهي تسمح بالمرور. 

يبدو أن هذه هي السياسة الماكرة التي تتبعها الحكومة، أي التغاضي و السماح لهؤلاء بمتابعة رحلتهم. فبالنسبة لغالبيتهم لا تمثل إيطاليا إلا معبرا لولوج فرنسا. إنها الهروب الذي يلي الهروب. ذلك أن رحلتهم لا تنتهي في لامبدوسا. لا ينتهي المسلسل إلا عند بلوغ باريس، نانت أو مرسيليا، حيث يلاقي كل منهم عائلته. هذه المنهجية تم تأكيدها من طرف مصادر داخلية. فنصف التونسيين الذين تم استقبالهم في مراكز الإيواء غادروا. و الأحاديث الرائجة تفيد بأن الأمر يخص هنا 1400 شخص على الأقل، مقابل ألف طلب لجوء تم تقديمها.  و حتى من ضمن 200 قاصر الذين تم احصاؤهم، أربعون و نيف منهم انقطعت آثارهم.

رضا أحد هؤلاء. يبلغ من العمر 17 سنة، و هو يتوفر، في نظر القانون، على الحق في السكن و التكوين. و لكنه يفضل المغامرة على المشاريع. حلمه رؤية فرنسا. حلم ساذج و مثير كما هي أحلام المراهقين، لدرجة أنه غادر المدرسة لهذا السبب. فعندما تمت المناداة عليه للمغادرة، في 10 فبراير، كان ذلك أثناء حصة الفيزياء. كانت تلك الساعة الثانية من عمر الحصة. أجاب على الاتصال، فحمل عليه أستاذه، و لكن الأمر كان بالغ الأهمية. بعدها اعتذر من أستاذه دون أن يطيل في التفسير و حزم حقيبته و غادر الفصل و هو يجري نحو البحر. لا رجوع بعد هذه النقطة، يقول مازحا. فقد راحت عليه سنته الدراسية نظرا لحالات غيابه المتكررة، بالرغم من أن تلك كانت سنته الأخيرة في الثانوية. ولكن فرنسا أمامه، ذلك المكان الذي طالما راود أحلامه و إن لم يكن يعرف أحدا فيها، هذا إذا ما استثنينا حبيباته اللواتي يلاقيهن على الفايسبوك و اللواتي يراهن على كاميرا الدردشات منذ أكثر من عام.

على العكس، ترك وليد حبيبته في جرجيس. علاقته بها جدية. إنهما يفكران في الزواج و شراء منزل في أقل من عامين. هذا إضافة إلى أنه ترك عملا جيدا في جرجيس، فقد كان سائق أجرة، ولكن مع الثورة و أزمة السياحة، انهارت أعماله. فاستغل تواجد أخيه في باريس للذهاب إلى أوروبا لربح حياته. سألته إن كانت مغادرته لتونس لا تشكل خيانة للثورة في نظره. فشباب المناطق الأكثر فقرا على كل حال، و الذين كانوا يأتون عادة إلى لامبدوسا من قفصة و متلاوي خلال السنوات الماضية،  لم نرهم بعد هذه السنة، و ذلك نظرا لالتزامهم ضمن المظاهرات المناشدة للديموقراطية.

قاطعني وليد في اللحظة. إياك و الخوض في ثورة بلده. فقد خرج للشارع في جرجيس إبان المظاهرات. كما أن شهيدين سقطا في مدينته برصاص الشرطة، و أصيب أحد أقرب أصدقائه إليه بطلقة نارية في ساقه. هذا فضلا على أنهم  شاركوا جميعهم في لجان الأحياء، بعد مغادرة الشرطة لمراكزها حينما شرع عسكر بن علي في زرع الرعب. كانت تلك تجربة أساسية عاشوها. و هم يعلمون أنهم يمثلون الطليعة بالنسبة لثورات مصر و ليبيا. ولكن المسألة لا تتوقف هنا. المسألة تتلخص في أنهم يريدون اليوم أن يعيشوا و بشكل جيد. و حيث أن اقتصاد السياحة لن ينهض إلا بعد سنة أو  اثنتين، فلا رغبة لديهم في الانتظار.

الأمر في جوهره يفيد بأنه لا وجود لعمل مهم حقا. يقول رضا مثلا أنه إذا ما تمت إعادته إلى بلده، فلن يمثل ذلك أدنى مشكل. يقول أن أهم شيئ بالنسبة له هو رؤية فرنسا، و أنه استغل الموقف، حيث غابت المراقبة في البحر منذ شهر و أن الأمور اختلفت عما كانت عليه أيام بن علي. حينها، إذا ما تم ضبط شخص في البحر متوجها إلى لامبدوسا، كان يحكم عليه بستة أشهر سجنا نافذا. يبتسم وليد، حلت لحظة في جرجيس كان لابد فيها من الذهاب، هذا كل شيء. لم تكن هناك ضرورة للتوفر على مشروع حياة، كانت هذه المغامرة تشكل في أغلب الأحيان فرصة لإثبات الرجولة للأصدقاء.

على كل حال، فإن الأمور كما يراها رضا و وليد ستمر على أحسن ما يرام. ولكن لا يستطيع كل شباب جرجيس مغادرة إيطاليا، فثلاثمئة منهم وجدوا أنفسهم خلف قضبان مراكز الإيواء و الطرد في شتى أنحاء إيطاليا، حيث تنتظرهم ستة أشهراعتقال و خطر الإعادة القسرية لتونس. لا تحاولوا فهم السبب الكامن وراء وجود بعضهم خلف القضبان و البعض الآخر في القطار مسافرين بدون أوراق قانونية نحو الحدود. ما من منطق يفسر هذا الأمر. بكل بساطة، حينما يتم ملء مراكز الطرد عن آخرها بحيث لا يبقى أي مكان لأشخاص آخرين، يتم السماح لهؤلاء بالذهاب إلى فرنسا. ولكن، و حتى داخل المراكز، يتم طرح عدة أسئلة، يأتي الجواب عليها بالتمرد. فبالنسبة لغالبيتهم، تشكل تلك المرة الأولى التي يتم اعتقالهم، و هم لا يستطيعون حقا أن يفهموا سبب ذلك. و هكذا نشب حريق في مركز طرد ڭراديشا، كما تم تسجيل مواجهات مع قوى الأمن و حرائق و محاولات فرار في تراپاني و برينديسي و تورينو و باري. كانت مودينا آخر المراكز التي انفجرت، حيث عمد 42 تونسيا تم تحويلهم من لامبدوسا إلى إضرام النار في أفرشتهم مطالبين ب"الحرية!". أتراهم استقدموا رفقتهم، من وراء البحر، بعضا من ريح الثورة؟


.ترجم من قبل امين خ