19 April 2010

الجزائر- «حراقة» إكرام


عِنَّابة - الجزائر – سردينيا. الطريق دائما ذاته، لكن الهجرة ليست دائماً هروباً من الفقر، كما أن البحر ليس دائماً هو الخطر الأعظم.
“إكرام حمزة” رحل عن عنابة من أجل الحب. لكن الجيش الجزائري، والذي يتعاون مع وكالة فرونتكس الأوروبية لمراقبة الحدود الخارجية والتي كانت قد وقَّعت مع الجزائر إتفاقية حماية حدودها الخارجية في أعالي البحار منذ ثلاث سنوات، اعترض طريقه.
يقضي “إكرام” نهاره وليله أمام شاشة الكومبيوتر متصفحاً الإنترنت، هكذا تعرف على فتاة فرنسية تدعى “كريستيلليه” من بلدة “سينيه سور مير”، كانا يتراسلان يومياً من خلال الـ “سكايبي” و”الـفيس بوك”.


السفارة الفرنسية كانت قد رفضت منح إكرام تأشيرة دخول لفرنسا على الرغم من أن نصف عائلته تعيش بفرنسا ـ وربما هذا هو السبب في رفض السفارة منحه تأشيرة الدخول. فلأم إكرام في مارسيليا أختاً واحدة وأخان اثنان كانوا على استعداد لاستضافته وتحمل نفقات إقامته. بعد رفض السفارة الفرنسية إعطاءه تأشيرة الدخول، اقترحت عائلة “إكرام” على “كريستيلليه” أن تأتي إلى الجزائر. لكن شهر آب (أغسطس) كان سيتوافق مجيئه مع حلول شهر رمضان، لذا قررت “كريستيلليه” تأجيل قدومها وقررت أن تأتي إلى الجزائر في شهر أيلول (سبتمبر) برفقة والديها للاحتفال بالزواج في عنابة. فـ “كريستيلليه” أحسَّت بأنها لن تكون مرتاحة إذا ما ذهبت إلى الجزائر خلال شهر رمضان وتقول إنها وعائلتها غير مسلمين وبالتالي سوف لن يصوموا؛ مما قد يزعج من حولهم. حاول “إكرام” إقناعه “كريستيلليه” بعدم وجود أدنى مشكلة في ذلك ولكن عبثاً حيث لم تعدل “كريستيلليه” عن قرارها.

إكرام كان – في داخله – لا يطيق الانتظار. فبعد أن بلغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً، كان يبدو له أنه قد أضاع من عمره الكثير. وأيقن ذلك عندما التقى، في بداية شهر آب (أغسطس)، صديقه عبد الحق، الذي يسكن في الحي نفسه. أخبر عبد الحق إكرام بأن جليل، والذي يعمل ببلدية القبة في الهجرة غير الشرعية، يُكَوِّن مجموعة من الشباب للهجرة إلى سردينيا، وأنه لا تزال هناك بعض الأماكن شاغرة ولكن قريباً سوف تذهب لآخرين، فإما أن تقتنص الفرصة أو تضيع منك. لم يدعه إكرام يعيد جملته ثانية، فهذا موعده مع الحظ، وهذه المرة لن يكون أبطء من غيره. ألم ترفض السفارة الفرنسية إعطاءه التأشيرة؟، إذن سيحصل عليها على طريقته “حراقة” كما يقال في اللهجة الجزائرية على من يجتاز حدود البلاد الأخرى بطريقة غير شرعية.

لم يخبر إكرام أحداً في المنزل بما جرى. ليلة الرحيل حكى كل شيء فقط لأخيه الأكبر هشام. وفي الصباح التالي، ذهب ليدفع المبلغ المترتب عليه وهو أربعمائة وخمسون يورو بالإضافة إلى خمسين يورو أخرى للوسيط، كان هذا المبلغ مدخرات عشر سنوات من أعمال مؤقتة كمساعد في مكتب مهندس معماري بالحي.

موعد الرحيل كان في “ريتزي أميور” عند شاطئ الحي الذي يبعد مسافة ثلاثمائة متر خلف سكنه المشترك مع العائلة. رافقه أخوه هشام وثلاثة من أصدقاءه، وكان يحمل في حقيبة ظهره الصغيرة زجاجة شامبو وصابونتين وعلبة شفرات لحلاقة الذقن وعلبتين سجائر، ويوجد في جيبه خمسة وثلاثين يورو التي كان قد بادلها في السوق السوداء مع المبلغ الذي أعطاه إياه الصائغ نظير بدل رهن خاتم زوجة أخيه.

قبل الرحيل، التقطوا بعض صور على الشاطيء – أراني هشام نسخة من هذه الصور، في بعضها كانت السماء مظلمة مع لقطة قريبة لأربعة أولاد أما إكرام فهو ذاك الذي يرتدي قميصاً قطنياً أسوداً بأكمام قصيرة، وبنطلون جينز قصير، ويرتدي في قدميه “الشبشب أبو اصبع”. في الجانب الأسفل للصورة دُون التاريخ والوقت الذين التقطت فيهما 6/08/2009 21:50.

ذاك المساء، تواجد على الشاطئ قرابة الثلاثين شخصاً ما بين ركاب وأصدقاء وغرباء وكان هناك مركبين راسيين زود كل منها بمحرك خارجي. حمل المركب الأول على متنه سبعة أشخاص ومن بينهم كان إكرام، بينما انطلق الثاني فارغاً. اتجه المركبان نحو “كاب ديه جارديه” بالقرب من “فيفيير” حيث كان ركاب آخرون ينتظرون، كان هشام قد استقل سيارة أجرة ولحق بالمركبين مع الأصدقاء الآخرين، وفي فيفيير كان هناك ما يقرب مائة شخص وكانت الفوضى عارمة. من بين تلك المشاهد الفوضوية، شاب يحاول بشتى الوسائل منع أخته من الرحيل، إلا أنه لم يفلح. في نهاية الأمر، وبعد أن تم توزيع الركاب السبعة والخمسين، انطلقت المراكب الثلاثة سالكةً طريقها في عرض البحر.

بعد مرور ساعتين، أي قرب منتصف الليل، تلقى مراد، صديق إكرام المقرب، اتصالاً من إكرام. وكانت تلك المكالمة الأخيرة.

كانوا يلاحقونهم!، اعترضوا طريقهم، لم يستطع مراد سماع إكرام فانتظر أن يعاود “إكرام” الاتصال به لاحقاً، إلا أنه لم يفعل. لم يعد الهاتف يرن، على الفور، اتصل مراد بهشام. لم يعرفوا ما ينبغي عليهم فعله. فذهبوا إلى الميناء. وفي الحي كان يتردد أنهم اختُطِفوا. إلا أنه فى تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، بدأت زوارق شرطة خفر السواحل بإنزال الشباب إلى رصيف الميناء. ووسط صوت صفارات إنذار سيارات الإسعاف ووسط رجال الشرطة، لم يكن لإكرام أي أثر. استمر توافد سيارات الإسعاف وذهابها من الميناء إلى مشفى ابن رشد بعنابة حتى الساعة الرابعة صباحاً. كان يُتداول بأن قرابة العشرين شخصاً قد أصيبوا بجروحٍ بالغة، وأكثرها خطورة هي الحروق.

لكن ما الذي حدث في عرض البحر؟ أحداً لم يعرف.

نُقِلَ إكرام إلى المشفى، أخيراً، وكانت الساعة الرابعة صباحاً، في حراسة الشرطة، حيث انطلقت سيارة الإسعاف دون أن تطلق إنذارها المدوي.

إكرام حمزة الذي وُلِدَ في الحادي عشر من نيسان (أبريل) عام 1977، دُفِنَ في مقابر سيدي عيسى، دُفِنَ مع حبه الكبير وأحلامه.

شهادة الوفاة الصادرة من المشفى تقول إن إكرام مات غرقاً. لكن هشام، شقيق إكرام، يعرف بأن الحقيقة غير ذلك، وقد أراني صوراً للمركب.

مركب صيد خشبي يبلغ طوله سبعة أمتار، في مقدمته بعض الكسور الواضحة. المركب اصطدم بزورق خفر السواحل، إلا أنه لم يغرق. يقول هشام: إن أخاه لم يغرق، بل قتلوه.

هشام لم يكن هناك تلك الليلة فلا يستطع أن يعرف ماذا جرى على متن القارب إلا أن رومداني أحمد كان على علم بكل تفاصيل الحادث. ففي تلك الليلة كان رومداني أحمد جالساً على مقدمة المركب بالقرب من إكرام، وعندما رأوا زوارق خفر السواحل تقترب منهم حاولوا الهرب. أرادوا الابتعاد قدر المستطاع لكن سفينة خفر السواحل وصلتهم. كانت قد أتت من جهة الشمال ولاحقتهم بأنوار كشافاتها المبهرة، وعلى متن الزورق لم تكن هناك أية وسيلة اتصال. ساروا بسرعة كبيرة في محاولتهم للهرب من السفينة التي تلاحقهم إلا أنها صدمتهم من المؤخرة. ونتيجة الاصطدام سقط الجميع في الماء. أما الذين كانوا يجلسون على مقدمة المركب، كأحمد وإكرام، فإنهم سقطوا أسفل جسم سفينة خفر السواحل ولقي إكرام مصرعه مباشرة إثر السقطة.

ذاك المساء، قبل أن يصعد على متن المركب، حادث أخاه، الذي كان حينها يعمل في موقف سيارات، أوصاه إكرام بأن يعنى بأمه وأبيه وبفيفي، كما كان إكرام يحب أن ينادي ابنة أخيه الصغيرة ذات العام الواحد، أنفال. كان سيرسل لهم أموالاً.