01 December 2007

جرجيس: متحف ذاكرة البحر

تونس: منذ أحد عشرة سنة و على طول الشواطئ التونسية الممتدّة بين جرجيس ورأس جدير، يجمع محسن ليهذّب، كلّ يوم بعد إنتهاء عمله بالبريد، الأشياء التي يقذفها البحر على مسافة 150 كيلومتر من الشّواطئ. وهي في الأغلب قوارير من البلاستيك، أيضا ألواح التّزلّج على الماء، قنب، سلاحف، مصابيح من النّيون، خوذات، إسفنج، جذوع من الخشب، بالونات مثقوبة. أنشأ محسن لهذه الأشياء متحفا، سمّاه متحف ذاكرة البحر. ذاكرة من البلاستيك، تتألّف من أعمال فنّية مع مفارقات إنسان العصر الحديث، صُنعت من النّفايات الّتي يقذفها البحر إثر عمليّات المدّ البيئي. أحد هذه الأعمال، الموجودة داخل الحديقة المُحاطة بِجدران من القوارير البلاستيكيّة، مُهداة إلى مامادو. وهي جبل متكوّن من 150 جوزًا من الأحذية على الأقلّ. أحذية جديدة. أحذية رياضيّة شبابيّة. أشياء لا يمكن إلقاؤُها. إنّها أحذية الغرقى. يحتفظ بها محسن بالإضافة إلى المئات من الأقمصة، معاطف، سراويل و قُمصان داخليّة استُرجعَت من الشاطئ، انتُزِعَت من الجثث المدفونة في البحر. كُلّها نظيفة و مُعلّقة بطريقة منظّمة تحت مظلّة. يقول محسن " أنا المَعلَم الوحيد الّذي يحتفظ بِذكرى للمآسي الّتي تحصُل هنا في الأسفل ".


منذ سنوات، يلقي البحر بِجثَث الغرقى على شاطئ جرجيس. حتّى أنّه توجد، خارج المدينة بِإتّجاه بن قردان وقرب الحدود، مقبرة من النّوع السرّي بين الكثبان. لا أحد يعرف أين تُوجد بالضّبط، و لكنّ الأكيد أنّها موجودة و مدفون بِها حوالي ستّين شخصًا. في البِداية كانوا يُدفنون في مقابر جرجيس، و لكن العدد أصبح كبيرًا. و الرّائحة الكريهة الّتي تنتشر في الجو إثر مرور الشّاحنة المُحمّلة بالجُثث، لا تختفي بسرعة. خلال جولات بحثِه، وجد محسن ثلاث جثث بالإضافة إلى ثلاثة أجزاء من جثث أُخرى. الأُولى كانت في أوت سنة 2002 ."منذ أيّام، راجت أخبار حول العثور على جثث أخرى. يسألني النّاس مازِحين، هل وجدتُ نصيبي من الغرقى، لكِنّي لا أمزحُ بتاتًا بهذه الطّريقة."

" في كل مرّة أدخل الماء، كنت أشعر بقلق شديد في المعدة، أتقدّم بحذر، حافي القدمين، كنت أخاف أن ألمس إحدى الجثث تحت الماء. في البداية كان البحر يُلقي لي بالفضلات الآتية من الشّمال عبر قناة صِقِلّية، بعد ذلك الرّسائِل في القوارير الّتي تحكي مشاكل الإنسان المعاصر، و أخيرا حملت لي الأمواج الضّحية الأولى لحما و عظما للطّريق نحو الغرب. رأيتها عن بُعد. في البداية بدت لي و كأنّها سلحفاة قذفتها الأمواج. عندما أدركت أنّه كائن بشري شعرت بإرتجاف شديد، نبضات قلبي أصمّت آذاني. كان هناك مُلقى، تغطّيه أعشاب البحر حتّى الرّكبتين و فوق الرّأس. قامته متوسّطة، ذلك الجسد العضليّ إستهلكته أشعّة الشّمس و أمواج البحر عندمل كان ينبض بالحياة، بشرته داكنة. بعينين دامعتين، تلَوتُ القرآن و صلّيت للّه ترحّما على روح مامادو . ثمَّ صرخت بأعلى صوتي من شدّة الغضب. لم أشأ أن ألتقط صورة لصديقي لأنّ جسده و روحه لا ينتمان إلاّ للّه " . إتّصل محسن بالشّرطة الّتي حملت الجثّة لدفنها إكرامًا للميّت.و في المساء طلب من زوجته أن تُعدَّ عشاءًا ممتازًا لكلِّ العائلة. "في المنزل، لم أروِ ما حصلإلاّ بعد أيّام، و لكن تلك اللّيلة أردتُ الإحتفال،لم يعُد مامادو ينام في البرد " .

لا يحتفظ البحر دائما بلأعضاء البشريّة لأِسابيع أو أشهُر. ففي يوم 21 أكتوبر 2005، عثر محسن على مامادو آخر. يقول محسن: " في تلك المرّة لم يكن هناك جسد، إلاّ جمججمة بيضاء تكسوها أعشاب البحر و عظام الأضلُع، يلُفّها رباطُ حزام أصفر على سروال أزرق، دون أن تكون هناك عظام السّاقين". إستعان بصديق له لحمل بقايا الرّجُل فوق هضبة من الرّمال و دفَناه مردّدين آيات قرآنيّة إنتهت بصرخة غضب. بعد عدّة أسابيع وجد محسن على نفس الشّاطئ صفّارة من البلاستيك. ألّف لها قصيدة يتسائل فيها، لماذا لم تُصدر تصفيرة في وجه مركَب المهاجرين السرّيين، لماذا لم تقطع الطّريق أمام أقدارِهم، نفخة و تصفيرة في الهواء كانت لِتكون كافية. بطاقة صفراء و حمراء في وجه المصيبة. قِفوا جميعا، لا يتحرّك أحد، و بذلك تكون قد أنقذت أرواح الغير محظوظين المفقودين في الأزرق الشّاسع. عندما إلتقطها من الرّمال و جرّب أن ينفخ فيها، أصدرت صوتا، صوتا تُصَمُّ له الآذان، الآن بعد فوات الأوان. لم يقوما بواجِبيهِما، لا الصّفّارة ولا الحَكمُ، صَرَف النّظر لأِنَّ الإثنين متورِّطين للمأساة الألف.

بجانب كومة الأحذية في المتحف، مامادو و الأميرة الغريقة، تمثالَين من الخشب بِلِباس الغرقى. يرتدي هو قُبّعة و زي موَحّد من النّايلون في حين تحمل هيَ صدريّة ورديّة. على بُعد بضع خطوات مصباح كبير من التّانغستان، يرمز للشّمس، و أشعّة من النّايّون المُثَبَّت على قنب بحري كبير. يقول محسن أنّها ترمُز للذّكاء البشري مقارنة بالدّمار الشّامل النّاتج عن الرّحلات من الجنوب إلى الشّمال. هناك أيضا قصيدة. " مامادو قل لأمّك أنّك لقيت التّرحيب، و أنَّا صلَّينا عليك لأِنّك مُبَارك. مامادو حدّث إلاهك، أيًّا كانت ديانتك، عن معاناة الإنسان و مصائبه. مامادو إذهب إلى إخوانك و إلى كلّ الّذين لم تكن سعادتهم في مكان آخر و أنّ كلّ ذلك لم يكن إلاّ سرابًا لعينًا ".